نظرة في نتائج الاستفتاء


 

نظرة في نتائج الاستفتاء

 

بعد استفتاء 19 مارس، الاستفتاء الذي شهد أكبر نسبة مشاركة شعبية في تاريخ مصر. قال الشعب كلمته وحدد اختياره. وحينها خرج أهل نعم سعداء محتفلين، وخرج أهل لا ممتعضين غير سعداء. وهذا أمر طبيعي وعادي. فقد كان أهل لا، يراهنون على أن الشعب لن يقبل بهذه التعديلات. إيماناً منهم بأن اختيارهم كان هو الأصوب، وهذا حق لهم بالتأكيد. وكان أهل نعم يتمنون أن يقبل الشعب خيارهم وهم يظنون أنه الأسلم، وهو حق لهم بالتأكيد. واختار الشعب الموافقة. وهذا أمر طبيعي، فلا بد أن يختار الشعب أحد القولين. وعلينا أن تذكر أن السؤال كان حول اختيار الطريق الذي نسلكه في وضع دستور جديد، وإدارة البلاد إلى حين وضع هذا الدستور.

شهدت مرحلة ما قبل الاستفتاء حالة استقطاب حادة جداً. فقد تم تصوير الأمر وكأنه استفتاء على الثورة، أو على الدين، أو على الهوية العربية والإسلامية لمصر. ثم تم تصويره على أنه استفتاء على الإخوان والإسلاميين والحزب الوطني، في مقابل العلمانية والكنيسة. ولا أدري حقاً كيف جاز لعاقل أن يضع الإخوان والوطني في كفة واحدة.

هذا الاستقطاب أدى إلى بعض الممارسات غير المقبولة ديموقراطياً وشرعياً وأخلاقياً. فليس من المقبول شرعاً أن يقول أحد أن “نعم” من الإسلام، أو أن الشرع يوجب القبول بهذه التعديلات. هذا الموقف مرفوض شرعاً وخلقاً وقانوناً. فالإسلام لم يوجب خياراً من الخيارين. وإن كنت أظن أنه يوجب القبول بما يختاره الناس أياً كان، حرصاً على وحدة الصف والكلمة. وفي المقابل كان مرفوضاً قول بعض القسس، إن على المسيحيين أن يخرجوا جميعاً ليقولوا لا لهذه التعديلات. فهذا أيضاً إقحام للدين فيما لا يختص بالدين. لأن التعديلات لا تمس المسيحية في شيء. وإن كنت أظن أن هذه الدعاية كلها لم تؤثر كثيراً، أو لم تكن حاسمة في خروج النتيجة النهائية.

وكما تم إقحام الدين فيما لا يتعلق به، تم إقحام قيم أخرى ليس لها شأن بالموضوع. فالادعاء بأن نعم خيانة لدم الثوار، أو تفريط في مكتسبات الثورة، واستخدام اسم المرحوم خالد سعيد وغيره من الشهداء كان تجاوزاً فجاً، وإساءة بالغة لأولئك الذين بذلوا أرواحهم لكي ندلي نحن بأصواتنا بحرية. وهذا سلوك غير أخلاقي في ظني. لأن كلا الطريقين يؤدي إلى تحقيق نفس الغرض، كل بما له من مزايا وما عليه من سلبيات.

كذلك شهدت مرحلة ما قبل الاستفتاء توظيفاً لوسائل إعلام خاصة وشركات اتصالات خاصة وأموالاً شخصية في الدعوة إلى خيار محدد، وهذا أيضاً سلوك ينبغي رفضه وتجنبه في المراحل القادمة.

 

لماذا كانت النتيجة نعم؟

في ظني أن اختيار نعم، كان له عدد من الأسباب الأساسية، سببين رئيسيين:

عدم وضوح البديل. فالتعديلات قدمت مساراً واضحاً بما له وما عليه. مساراً يستطيع الناس فهمه وإدراكه، وبالتالي يستطيعون التعامل معه على المستوى النفسي. أما رفضها، فيعيدنا إلى الطريق المجهول، الذي لا يعرف أحد بماذا سيأتي ولا كيف سيكون.

الرغبة في الاستقرار، رأى الناس في الانتخابات البرلمانية سيؤدي إلى توقف المظاهرات اليومية التي أدت إلى تعطل مصالح الناس، واضطراب حياتهم. وأن مجلس شعب منتخب سيجعل الاحتكام بعد ذلك إلى صندوق انتخابات نزيه، وليس إلى المظاهرات المليونية. كما أن وجود حكومة منتخبة كاملة الصلاحيات، تساعد مصر كدولة على اتخاذ المواقف الضرورية مع تطورات الأوضاع.

بالإضافة إلى الرغبة في عودة الجيش إلى ثكناته، صحيح أن الشعب احتفل بنزول الجيش إلى الشارع، ويكاد كل مصري الآن يحتفظ بصورة له أمام دبابة، ولكن ليست هذه هي صورة الحياة التي يريدها الشعب. فالثورة في أحد أوجهها كانت ثورة على الحكم العسكري. وليس المطلوب أبداً إعادة الحكم العسكري إلى مرحلته الأولى.

كذلك كان خيار الانتخابات البرلمانية الحرة خيارا جاذباً للشعب. بإحساسهم أنهم أصبحوا قريبين من اللحظة التي يختارون فيها نواب البرلمان، ولا يتم اختيارهم بالنيابة عن الشعب.

أما عن أثر الخطاب الديني بشقيه الإسلامي والمسيحي، فأنا أظنه لم يكن مؤثراً بدرجة كبيرة. فقد رأينا وسمعنا نفس الأشخاص ينادون أتباعهم باجتناب المظاهرات والعودة إلى منازلهم، ولم يؤثر ذلك كثيراً في زخم الثورة واندفاعها. وظل الناس يتزايدون من يوم إلى آخر، حتى يوم تنحي الرئيس. فالسلفيون قالوا إنها فتنة، وأن على المسلم تجنب الفتنة. ومع ذلك، فقد شهد البعض بوجود سلفيين في أيام الثورة. وقالت الكنيسة لأتباعها إن عليهم تجنب الخروج في المظاهرات، وقد رأينا أكثر من قداس أقيم في ميدان التحرير. ولا بد أن من أقام القداس كانوا مسيحيين.

 

الفائز والخاسرون

كان ظني يوم إعلان النتائج أن الفائز الأول هو مصر، وأنه لا يوجد خاسر في هذا الاستفتاء. وما زال يقيني أن الفائز هو مصر، بغض النظر عن اختيارها، وإنما هي فازت بالاختيار، فالشعب اليوم يقرر بنفسه لأول مرة منذ عقود طويلة. وهذا هو المكسب الأول الحقيقي في بناء مصر الحديثة، مصر الحرة، مصر التي تملك قرارها. هذا المكسب الذي كان ينبغي على الجميع أن يحتفي به وأن يؤكد على قيمته.

وكنت أظن أنه لا يوجد خاسر، ولكن يبدو لي اليوم أن هناك خاسرين حقاً، فقد أسقطت النتيجة وما تبعها بعض الأساطير التي كنت أوشك أن أصدقها.

أهمها هو حق التمثيل، فقد ثبت أن كثير من الجهات التي تتكلم باسم الشعب، وتعبر لنا عن مطالب الشعب ورغبات الشعب، لا تعرف في الحقيقة شيئاً كثيراً عن الشعب. فقد كانوا يصيحون إن الشعب يرفض الاستفتاء ابتداءً، ويرفض التعديلات رفضاً قاطعاً. والحقيقة أن الشعب قد قبل الاستفتاء، وأقبل عليه إقبالاً غير مسبوق. ثم قبل التعديلات بنسبة كبيرة جداً.

أثبتت النتيجة أن بعض من كان يظن نفسه قائداً وزعيماً يتبعه الشعب أينما ذهب، ليس كذلك على أرض الواقع. فقد خرج كل من يظن نفسه زعيماً ويرشح نفسه للرئاسة، ينادي الناس بأن يرفضوا هذه التعديلات. فلم يستجب لهم جميعاً إلا قريباً من خمس الأصوات الصحيحة في الاستفتاء. جميع القوى التي قررت أنها تمثل الثورة والشعب والزعامة والقيادة الشعبية لم تنجح إلا في الحصول على أربعة ملايين صوت. فهل يحق لهذه الأصوات أن تتكلم باسم الشعب مرة أخرى، أو أن تحاول فرض وصايتها على الشعب بعد ذلك؟

الوزن الانتخابي للكنيسة، هذه النتيجة بنسبتها الحالية، كانت مفاجئة لي. فقد دعت الكنيسة أتباعها إلى التصويت بكثافة والتصويت برفض التعديلات، وكان الافتراض أن هذا سيحقق على الأقل أربعة ملايين صوت. فإما أنه لم يصوت بلا إلا المسيحيون، وهذا غير صحيح، لأننا رأينا كثير من المسلمين الذين قالوا لا، أو أنه لا أنه لا يوجد مسيحيون في مصر (وهذا غير صحيح بالطبع) وإما أن المسيحيون لم يلتزموا بأمر الكنيسة. سواء بعدم التصويت أساساً أو بقبول التعديلات بخلاف قول الكنيسة. لقد أظهرت النتيجة أن المسيحيين في مصر هم جزء من النسيج الوطني يحمل نفس الوعي العام المصري.

هذه النتيجة التي خرج بها الاستفتاء، لا ينبغي اعتبارها فوزاً للتيار الإسلامي، الإخوان والوسط والعمل والسلفية. فهي لم تكن كذلك. فلم يكن الدافع للقبول هو دعوة هذا التيار تحديداً وإنما عوامل كثيرة مؤثرة حقاً في الشارع. وإن كان منها دعوة هؤلاء لأنصارهم بالموافقة. ولكن هذه الدعوة ليست العنصر الحاسم. بل ربما لم تكن عنصراً كبير التأثير. فالظن بأن هذه النتيجة تشير إلى ما يمكن تحقيقه في الانتخابات التشريعية، هو وهم قد يلحق بالحركات الإسلامية ضرراً كبيراً، إذا ركنت إليه واعتمدت عليه.

وهي في الجهة الأخرى، إشارة واضحة للتيارات الأخرى التي دعت إلى لا ودافعت عنها، بأنها إذا لم تغير خطابها، وتتواصل مع الشارع فإنها خاسرة لا محالة. فكل ما فعلته تلك القوى من دعاية وحشد وتوجيه و”تثقيف”، لم يصل إلى الناس بالقدر الذي تصوروه. فعليهم إذا أرادوا تحقيق نتيجة أفضل في الانتخابات التشريعية، أن يصححوا أخطاءهم، ويراجعوا مسلكهم. أما إذا استمروا في التطاول على هذا الشعب، والاستخفاف به واتهامه بالجهل وقلة العقل وانعدام الوعي. فسوف تكون خسائرهم في المرحلة القادمة أثقل مما يظنون. فأنا لن أختار ممثلاً لي يظن أنني عديم العقل، ولن أستمع لمن يظن أنه وصياُ على عقلي.


2 تعليقان

  1. مقالاتك تثبت الاتى
    Common sense isn’t common ! look around ! 😀
    جميلة جدا. وتطابق وجهات نظر مرة ثانية 🙂

  2. Common sense isn’t common ! look around

    للأسف صحيح تماماً.

    تحياتي

اترك رداً على حسن مدني إلغاء الرد