لماذا نصوت ب”نعم”

لماذا نصوت بـ”نعم”


عندما نتوقف للحظات، لنفكر لماذا نزل الآلاف إلى الشارع في يوم 25 يناير؟ ولماذا لحق بهم الملايين في الأيام التالية؟

الإجابة ببساطة هي البحث عن الحرية، حرية اختيار ممثلي الشعب على جميع المستويات، حرية الشعب في اتخاذ القرار، وتحمل تبعاته، حرية الشعب في تقرير مصيره ورسم صورة المستقبل، حرية الشعب في إدارة شؤون الوطن.

على ضوء هذا الدافع الأساسي لثورة يناير، يمكننا التفكير في اختياراتنا في التصويت في الاستفتاء القادم على التعديلات الدستورية.

الإجابة بنعم، والموافقة على التعديلات، يعني ببساطة نزع السلطة من يد الجيش، وأخذها بيدنا نحن، نحن المجتمع المدني. حيث يقوم ممثلون عن الشعب بالإشراف على عملية إعداد الدستور الجديد الذي نرغب فيه جميعاً على السواء. وذلك بمشاركة جميع الهيئات المدنية، أو التيارات السياسية المدنية، كما ورد بوضوح في التعديلات الدستورية محل الاستفتاء.

 

بالمقابل، الإجابة بلا، ورفض التعديلات، يعني ببساطة أن الشعب يرفض أن يتحمل مسؤولية إدارة البلد. يرفض أن يتولى المجتمع المدني مسؤولية إدارة البلاد، ويفضل أن يستمر الجيش في تولي هذه المسؤولية، وهذا خطأ جسيم لعدد من الأسباب:

1) رفض التعديلات يعبر عن عدم رغبة الشعب في تحمل مسؤولية اتخاذ القرار، ورسم صورة المستقبل بإرادة شعبية. في حين أن هذا هو الهدف الأساسي من الثورة.

2) إدارة الدولة مهمة بالغة الأهمية، وهي لم تكن قط، ولن تكون أبداً مهمة القوات المسلحة. إنها عمل المجتمع المدني الذي يجب أن يدير نفسه، بعيدا عن الوصاية العسكرية. كما أن تورط الجيش في إدارة الحياة المدنية يفسد الجيش ويفسد الحياة المدنية.

3) الجيش لديه مهام أخرى، لا ينبغي أن ينشغل عنها، وهي حماية أمن مصر الخارجي. فلدينا التهديد الإسرائيلي وهو تهديد استراتيجي من جهة الشرق، ولدينا الأحداث المتصاعدة في ليبيا جهة الغرب، ولدينا السودان بما يتعرض له من انقسام واضطرابات في الجنوب، ولا يجب أن نغفل مسألة مياه النيل والمشاكل المثارة حولها، وهي تحتاج إلى دولة مستقرة قادرة على إدارة الحوار أو الصراع بشأن المياه.

4) لا يوجد بديل واضح. ما هي الخطة البديلة في حالة رفض التعديلات؟ من الذي سيقوم بوضع الدستور الجديد؟ ومن الذي سيختار الذين يقومون بوضع الدستور الجديد؟ وكيف نضمن أنهم يعبرون عن إرادة الشعب، إلا من خلال انتخابات؟

5) من الذي سيتولى إدارة البلاد؟ وإدارة الحياة المدنية وبناء العملية الديمقراطية؟ خلال فترة وضع الدستور ومناقشة مواده المختلفة. هل سنترك الأمر كله في يد المؤسسة العسكرية الدكتاتورية بطبيعتها؟ إن ترك بناء الديمقراطية في يد مؤسسة عسكرية دكتاتورية بطبيعة تكوينها، أمر يخالف أي منطق.

 

باختصار، نحن مهتمون بخطوة البداية وليس النهاية، بدستور لا يخلو من عيوب. بدلا من ترك الأمور في يد الجيش. أن نبدأ نحن المجتمع المدني في بناء ديمقراطيتنا بدلا من ترك الجيش ليقوم بهذه المهمة. وهو لا يملك الأدوات اللازمة لذلك. لقد سبق أن تركنا الجيش يقوم بهذا الدور في عام 1952، وكانت النتيجة هي “الديمقراطية” التي عايشناها خلال 60 عاماً مضت.

فهل نحن مستعدون لإعادة التجربة مرة أخرى، لأننا خائفون من تحمل المسؤولية؟

 

إننا عندما ننادي بالموافقة على هذه التعديلات، فإننا لا نتصور أنه دستور جيد، بل إننا نعرف نواقصه وعيوبه بوضوح، ولكننا نظن أنه يصلح نقطة بداية من أجل البدء، مجرد أرض نقف عليها أثناء البناء. لأنها توفر أمرين أساسيين في بناء الديمقراطية:

  1. تحقق عملية انتخابات حرة ونزيهة، وهو المطلب الذي ناضلنا من أجله على مدي عشرين عاماً.
  2. تضمن وضع دستور جديد، من خلال إجراءات واضحة، وخلال مدة زمنية محددة.

 

إن الخائفين من تحمل مسؤولية الحرية، لا يستحقون الحرية ولا يستحقون الاحترام. وليس من العدل أن يضحي الشهداء بدمائهم من أجل الحرية، ثم نهدرها نحن لأننا خائفون من تحمل هذه الحرية.


حسن كمال

ترجمة/ حسن مدني

السيناريو المرعب

السيناريو المرعب


بعد نجاح الثورة المصرية في إسقاط النظام المصري، الذي كان يعد أحد أكثر الأنظمة قوة ورسوخاً في المنطقة، وأكثرها استبداداً وقمعاً وتخريباً في بلادها. شعر الشعب بالنشوة لهذا النجاح، وشعر بأنه أخيرا قد استعاد سيادته على أرضه، وقدرته على تحديد مصيره ورسم مستقبله. وانطلق يعبر عن إرادته وحريته بكل الطرق.

ومع تصاعد المد الثوري الذي يفرغ احتقان السنوات الطويلة الماضية، والكبت الذي عانى منه الشعب على مدى عقود. تزايدت المظاهرات اليومية التي تطالب كل يوم بجديد. هذه المظاهرات التي تطالب أحيانا بما هو مشروع ومنطقي وضروري، وبعضها بما هو منطقي وغير ضروري. وبعضها بما هو محل خلاف شديد. وكل مظاهرة تعلن أنه لا مساومة ولا تنازل عن مطالبها، وهم مستعدون للموت من أجل تحقيق مطالبهم.

بعد انقضاء المطالب الأساسية للثورة، وتحقيق مطالبها، كثرت المظاهرات المعبرة عن مطالب هي محل خلاف في الرأي. فخرجت مظاهرات تنادي بإلغاء الاستفتاء باعتباره التفافا على الثورة، وخرجت مظاهرات مقابلة تنادي بضرورة الاستفتاء باعتباره ضرورة للتعبير عن الثورة. وخرجت مظاهرات تنادي بانتخاب مجلس رئاسي يعبر عن مطالب الثورة، وخرجت مظاهرات أخرى تطالب بإبقاء حكم الجيش باعتباره حارس الثورة، ومظاهرات ثالثة تنادي بضرورة انسحاب الجيش باعتباره من ذيول النظام السابق، ومعاد للثورة.

كذلك خرج البعض في مظاهرات تنادي بالحفاظ على المادة الثانية من الدستور، وطالب البعض بمظاهرات مليونية لإلغاء المادة الثانية من الدستور. ومظاهرات من أجل إلغاء الدستور، ومظاهرات من أجل إعادة تفعيل الدستور. وهكذا توقفت كثير من مظاهر الحياة في مختف القطاعات، وتعطلت كثير من المصالح الحيوية للناس.

ومع توقف عجلة الإنتاج والكسب، بدأ العمال يخرجون في مظاهرات حاشدة تطالب بعودة الاستقرار والنظام إلى البلاد، بل وخرج البعض ينادي بعودة الرئيس المخلوع، الذي كان يوفر لهم الاستقرار وفرصة أكل العيش. في حين رفض آخرون فكرة عودة الرئيس السابق، وطالبوا بانتخاب رئيس جديد يتولى إعادة الاستقرار، ويشرف على إعادة الحياة الديموقراطية. كما أن كثير من العمال الذين فقدوا مصادر رزقهم اضطروا إلى التوجه إلى أعمال غير قانونية، مثل الجريمة أو التهريب أو احتراف المظاهرات والهتاف، أو البلطجة، بحثاً عن مصدر أي مصدر للرزق.

مازالت المظاهرات تتعدد وتتنوع، وكل مظاهرة تعتبر نفسها هي المعبرة عن حقيقة الثورة وجوهرها، وتطالب الجيش بالنزول على مطالبها، وإلا كان خائنا لمطالب الثورة، ومضيعاً لمكتسباتها، ويسعى للالتفاف عليها. وكل قائد مظاهرة يعلن أنه كان هو المحرك الرئيسي للثورة، أو أحد قادتها ورجالاتها. وأن كل مخالفيه من أذناب النظام السابق، أو عملاء الخارج، أو من القلة المندسة. وكان بعض هذه المظاهرات سلمي فعلا، ولكن كان البعض الآخر عنيفاً بدرجات مختلفة، وبعضها بدأ سليماً ثم تعرض إلى مناوشات أو استفزاز جعله يتجه إلى العنف.

يعلن الجيش أنه سيطرح جدول زمني قصير لتسليم السلطة للمدنيين في استفتاء عام. فنسمع بعض الأصوات التي تنادي بإلغاء الاستفتاء وتأجيل تسليم السلطة، لأن الشعب المصري لم يتعود على الديموقراطية، وغير مستعد لها، ويحتاج إلى وقت للتخلص من بقايا النظام السابق وإنشاء أحزاب جديدة تعبر عن المرحلة الجديدة. بعد ستة أشهر أخرى، يعلن الجيش عن رغبته في تسليم السلطة، فتعلن الأحزاب الناشئة أنها غير مستعدة بعد، وأنها لم تحصل على فرصة كافية للانتشار في القرى والأقاليم. وأن الظروف السياسية والاقتصادية غير ملائمة لإجراء الانتخابات، وأن الشعب المصري الذي لم يمارس الديموقراطية خلال الستين سنة الماضية ليس مستعدا بعد. وتخرج المظاهرات المطالبة بإلغاء الاستفتاء.

يقرر الجيش مد الفترة الانتقالية لخمس سنوات، من أجل تحقيق الاستقرار، وإنقاذ كيان الدولة المصرية، وإعادة الحياة إلى القطاعات الاقتصادية من إنتاج وزراعة وصناعة وسياحة، مع إعلان الأحكام العرفية، ومنع التظاهر والتجمع.

تبدأ عجلة الاقتصاد في الدوران، ويشعر الناس بالراحة والاستقرار أخيرا، خاصة وأن المجلس العسكري حريص على تجنب الأخطاء القاتلة التي وقع فيها النظام السابق. وتبدأ محاكمات جنائية وسياسية لرموز العهد البائد، يستم بعضها بالعدالة والحياد، وبعضها دون ذلك. ويرحب الناس بهذه المحاكمات ترحيبا شديداً. بعد فترة زمنية قصيرة، بدأ جهاز الأمن الوطني في الظهور تدريجيا، وأشاد به البعض عندما نجح في الكشف عن شبكة جاسوسية تعمل لحساب إسرائيل، ثم شبكة أخرى من شبكات الثورة المضادة، ثم يحبط محاولة إرهابية لمصلحة الثورة المضادة، وتتوالى عمليات الكشف عن شبكات الثورة المضادة، وفلول الحزب الوطني، وأذناب النظام السابق، وكشف مخططات لإثارة الفتنة الطائفية، والالتفاف على الثورة، والعمالة لجهات خارجية.

 

بعد ستين عاماً يقول الشاب لجده: هناك دعوة على مواقع اجتماعية على شبكة الانترنت تطالب بالثورة على نظام الحزب الحاكم، واستعادة روح الميدان. فيقول له: كان غيرك أشطر.

 

هذا السيناريو الأكثر إظلاماً والأشد تشاؤماً في تطورات الأحداث الجارية في مصر. وأتمنى أن لا نرى هذا السيناريو مرة أخرى، فقد رأيناه سابقاً ولم نسعد به، ودفعنا ثمناً باهظاً للتخلص منه.


شروط الرئيس

شروط الرئيس


في التعديلات الدستورية الأخيرة، أضافت لجنة تعديل الدستور شروطاً للرئيس المصري، منها ما أثار اعتراض الكثيرين. وفي تصوري الشخصي، أنها شروط معتدلة ومقبولة، ولها ما يبررها. بعيدا عن سوء الظن الذي يفضله البعض.

الأصل في الحاكم أن يطاع، فإذا لم يطع لم يعد حاكماً. ولكي يطاع أمر الحاكم في نطاق حكمه، ليس هناك إلا سبيل من اثنين. إما القوة والإجبار، أو الاقتناع والثقة. والحقيقة أنه لا بد من السبيلين معاً، فليس هناك من يرضى عنه الجميع أو يثق به الجميع. فلابد من وجود قوة لدى الحاكم من أجل فرض القانون. وفي حالة انفراد الحاكم بالقوة، وعدم وجود قوى مقابلة تحد من سلطته، فإننا نقع في الاستبداد الذي هو أصل كل فساد. وفي حالة فقدان الحاكم للقوة، تسير الأمور نحو الفوضى التي لا ضابط لها. ولذلك اخترع الناس الحكومة، وخضعوا لها.

في المجتمعات القوية، ذات المناعة الذاتية، يعتمد الحاكم على ثقة شعبه بصفة أساسية في الحصول على الطاعة. لذلك ينبغي أن يعمل المشرع على وضع شروط تحقق أكبر قدر من الثقة في الحاكم. كما تضع التشريعات حدودا وقواعد لضمان الثقة في القاضي، أو في أي منصب حساس في الدولة، قد يمس أمن الدولة بأي صورة من الصور. وهنا لا بد أن نميز بين مفهوم الدولة ومفهوم الحكومة. وهذه الشروط تحقق أكبر قدر ممكن من الحماية لمصالح الدولة، ومنها الثقة في المناصب.

في القضاء مثلا، هناك شروط دقيقة، لا بد أن يتحلى بها القاضي، لكي يثق الناس في عدالة القضاء وحياده. وهذه الثقة لازمة لاستقرار أي مجتمع أو أي دولة. وبدونها تنهار أسس الدولة كاملة. لذلك يمتنع على القاضي أن يحكم في قضية يكون أحد أقربائه طرفاً فيها، وليس في ذلك انتقاص من نزاهته أو تشكيك في حياده، وإنما حفظا له من الحرج، ومنعا لسوء ظن المتقاضين بحكمه.

نعود إلى الحديث عن رئيس البلاد بما له من صلاحيات، ينبغي تخفيضها والحد منها، ولكن تظل له صلاحياته، ويظل يمثل البلاد أمام العالم. فلابد أن يكون متمتعاً بالثقة التي لا يتسرب إليها شك في انتمائه للبلد. ولا بد من دفع أي سوء ظن بمن يشغل هذا المنصب، أو في دوافع قراراته ومواقفه.

فالحديث عن ازدواج الجنسية ومنع أصحاب الجنسيات الأخرى من الترشح لهذا المنصب، لا يعني الانتقاص من وطنية الذي اضطروا أو رغبوا في الحصول على جنسية أخرى نتيجة الظروف التي كانت تمر بها مصر في العقود الأخيرة. ولكنه دفع لسوء الظن. فلو أن رئيساً يحمل جنسية إيطالية مثلاً، ووقع اتفاقية في أي مجال مع إيطاليا. فهل نعدم من يثير مسألة ازدواج الانتماء – أو تعارض المصالح – إذا رأى شرطاً لا يعجبه في الاتفاقية؟ ألن يقال إنه يعمل على ترسيخ النفوذ الإيطالي في مصر لأنه يحمل جنسية إيطالية؟ سيقال بالتأكيد. سواء من منافس سياسي أو من مخلص سيء الظن. والناس مجبولون على سوء الظن بالحكام.

وكذلك الأمر بالنسبة لجنسية الزوجة، فلو كان الرئيس متزوجاً من تركية مثلا، وجاء اتفاق مثل الذي نشر مؤخراً عن إلغاء تأشيرة الدخول بين تركيا ومصر. فهل نعدم من يقول إن الرئيس يحابي أصهاره، ويعمل على استفادتهم من نفوذ الرئيس المصري في مصر؟ ألن نجد من يقول إن الرئيس قد عمل على ذلك حتى يتمكن أبناؤه من زيارة أخوالهم بسهولة؟ سيقال ذلك وأكثر منه بالتأكيد.

هذا مع افتراضنا براءة الرئيس من التأثر بأصهاره، وتداخل مصالحه مع مصالحهم. ونفينا لاحتمال تأثر تفكيره وقراراته بهذا الزواج. وبلاد الدنيا تشترط على الدبلوماسيين والعسكريين عدم الزواج بأجنبية إلا بإذن خاص. (خوفاً من هذا التأثر). فكيف بالقائد الأعلى والممثل الدبلوماسي الأول في البلاد؟ ألا يجب أن ينطبق عليه ذات الشرط؟

إن هذه الشروط، لم توضع في ظني تفصيلا لمنع أحد، أو حصر المشرحين في أسماء بعينها في هذه المرحلة. وإنما وضعت من أجل حماية المنصب من سوء الظن وسوء القالة. ورفعاً للحرج عن الرئيس الذي يفترض فيه أن يمثل البلد أمام العالم، ويقوم بقيادة البلاد اعتمادا على الثقة وليس على القوة العسكرية أو مباحث أمن الدولة وجهاز المخابرات.

كذلك كنت أتمنى أن يضاف شرط الإسلام لهذه الشروط، مراعاة للوضع المصري. حيث دين الدولة الإسلام، وغالبية الشعب مسلمين. وهناك مؤسسة كنسية تقوم بما يتعلق بالشأن الديني للمسيحيين، تكاد لا تخضع للدولة، بخلاف شأن الأزهر الشريف. وكون الرئيس مسلماً أمر مهم يحقق مصلحة للمسلمين والمسيحيين على السواء. إذ لو كان الرئيس الذي سلم السيدة وفاء قسطنطين وأخواتها مسيحياً لقامت في مصر حرب أهلية. ولو كان الرئيس الذي باع الغاز للكيان الإسرائيلي مسيحياً لحسب ذلك على المسيحيين كافة. ولو كان الذي حدث للإسلاميين في العهد الساقط قد حدث في عهد رئيس أو وزير غير مسلم، لكانت البلاد مهددة بحرب أهلية، ولأخذ كل المسيحيين في البلاد بذنبه. ولو كان الرئيس مسيحياً واتخذ قراراً رآه المسلمين محاباة لكنسية لقامت الدنيا ولم تقعد. وفي هذا حرج على أي رئيس غير مسلم أي حرج.

أما الحديث عن المواطنة، وتساوي المواطنين في فرصة الترشح للرئاسة، فهو كلام في غير محله. فشرط السن مثلاً لا ينتقص من وطنية من هو دون الأربعين، ولا يمنعه من خدمة وطنه. كذلك فليس منصب الرئاسة هو المنصب الوحيد الذي يمكن لصاحبه أن يخدم وطنه وأن ينفع بلاده. فالدكتور مجدي يعقوب قد أسدى لمصر خدمات جليلة بالمركز الطبي الذي أقامه في أسوان. ولم يكن رئيساً، ولم يرشحه أحد للرئاسة. وغيره كثير من المسلمين والمسيحيين الذي خدموا بلادهم، وقدموا لها الكثير، ونفع الله بهم البلاد والعباد بغير منصب الرئاسة. وربما لو تولى أحدهم الرئاسة لما انتفعنا به مثلما انتفعنا ببعده عنها.

والله أعلم.

مصر تدور في فلك وحدها

مصر تدور في فلك وحدها

 

قبل سنوات، كنت أقول لمن يسألني عن مصر، إن مصر تدور في فلك وحدها. فالأشياء تحدث في مصر بأسلوب مختلف عن أي بلد آخر. حتى الثورة كان لها شكل مختلف في مصر. فهي ثورة تابعها العالم كله مندهشاً، عاجزا عن فهم ما يحدث، وكيف يحدث. والحقيقة أنه من الصعب على أي متابع من الخارج أن يفهم ما يحدث في مصر، إلا إذا نسي كل ما تعلمه عن العالم. فمصر لا تدور مع الأرض في دورانها، بل تدور في فلك وحدها.

هذه الثورة العجيبة التي لا تشبه ثورة أخرى، ولا تشبهها ثورة أخرى. إلا في كونها ثورة أسقطت حاكماً ظالماً، فقد شعبيته وشرعيته مع مرور الزمن، وتراكم الظلم. أنا سوى ذلك، فقد كانت فريدة في نوعها وشكلها.

فهي بدأت دون تخطيط محكم، فقد بدأت بمظاهرات تطلب الإصلاح، فلما استنفذ النظام قوته دون أن يسكتها. ارتفع سقف المطالب إلى التغيير الكامل وهو ما عبر عنه الثوار بقولهم إسقاط النظام. وهي سارت ونمت وحددت مطالبها دون قيادة واضحة، ولا زعامة لأحد. ولم يقدها تيار سياسي أو فكري. بل كان معبرة عن الوعي العام المصري، والمزاج الخاص للمجتمع المصري كاملاً.

وهي الثورة الأولى التي يدعى الناس إليها قبل شهر من موعدها، وكأنها حفل مثلاً، وليست ثورة لتغيير نظام البلد.

تكاد تكون هذه الثورة هي أول ثورة يتابعها الناس مباشرة لحظة بلحظة.

هذه هي المرة الأولى التي يقوم فيها الثوار بتنظيف مكان اعتصامهم بعد نجاح الثورة، بل وأثناء الاعتصام.

وهي أول ثورة تكون فيها البلاد أكثر أمناً في غياب الشرطة. وأن تكون الشوارع أنظف في غياب عمال النظافة.

هذه هي الثورة الوحيدة التي خلت من العدوانية تقريباً. فكان الناس قبل الثورة أكثر عدوانية وأشد شراسة منهم أثناء الثورة. والثورة عادة ماتكون تعبيرا عن غضب طويل، ينفجر في أعمال عنف أو في شراسة عدوانية، ولذلك سميت ثورة. أما يتحول الناس إلى السماحة والوداعة أثناء الثورة. فهذا أمر جديد.

هذه هي الثورة الوحيدة فيما أعلم التي استخدم فيها الثوار سلاح الكلمة كسلاح أساسي في هجومهم على النظام، ولم يستخدموا العنف إلا دفاعاً. وكان سلاح الكلمة فعالاً دائماً، وجارحاً أحياناً.

عرفنا في الثورات كلها، فيلسوف الثورة، وشاعر الثورة، وأديب الثورة، وخطيب الثورة، وطبعاً شهداء الثورة. ولكن في الثورة المصرية وحدها رأينا حلاق الثورة. الذي جاء متطوعاً ليحلق للثوار شعرهم مجاناً. ورأينا عريس الثورة، الذي احتفل بزفافه في ميدان التحرير وسط الثوار. وكانت هذه بعض السبل التي أبدى بها الثوار عزمهم على تحقيق هتافهم الشهير، (مش حانمشي، هو يمشي).

كذلك كانت هذه أول مرة فيما أعلم، يقوم فيها النظام بإرسال مجرمين محترفين لمهاجمة جموع الشعب. وهي سنة بدأت بعض الأنظمة تمارسها. ويتحمل وزرها من بدأ بها أول مرة.

قيل قديماً، إن العرب تبع لمصر، برهم تبع لبرها، وفاجرهم تبع لفاجرها، وعالمهم تبع لعالمها وجاهلهم تبع لجاهلها. وكذلك العابد والعاقل والفاجر والسفيه. ومن عجب أن نرى الثورات في العالم العربي يحاول تقليد الثورة المصرية، وتحاول الأنظمة السير على طريق النظام المصري. صحيح أنه من الصعب على شعب آخر أن يقوم بما قام به شعب مصر، بذات الأسلوب، ولكن تقليد النجاح أمر عادي. ولكن العجيب أن تسير الأنظمة على نفس طريق النظام المصري السابق، فتقليد الخاسر أمر غير شائع.

كانت بعض ملاحظاتي على هذه الثورة الفريدة.

أن الناس بمجرد أن شعروا أن ضغط النظام الحاكم قد ارتفع عنهم، بغياب جهاز الأمن الحكومي، تبدلت أحوالهم وتغيرت طباعهم. وكأن الناس قد شعروا في لحظة أنها بلدهم هم. وليست بلد أولئك القاطنين في السحاب. فرأينا كل منهم يحرص على الدفاع عنها، فقام كل منهم على ثغر من الثغور، فمن حراسة المتحف المصري، إلى حماية الأحياء السكنية، إلى المحافظة على تنظيم المرور، إلى تنظيف الشوارع.

كانت الجرائم تقع في مصر، كما في أي بلد آخر. ولكن المرعب كان أن تقع الجرائم في الطريق العام وفي شارع مزدحم وفي رابعة النهار. فلا يفكر أحد في نجدة الضحية أو إغاثتها أو منع وقوع الجريمة، سواء كانت سرقة بالإكراه أو تحرش أو غير ذلك. فلما قامت الثورة، واختفى رجال الشرطة. أصبح الناس يحرس كل منهم الآخر، ويعمل على حمايته. فأصبح الشارع أكثر أمناً.

لاحظت، كما لاحظ الكثيرين، اختفاء النكتة أو ندرة النكات المضحكة في مصر في السنوات الأخيرة. وكانت الملاحظة التي أبداها الكثيرون، أن المصري يسير متجهماً عابساً على غير ما اشتهرت به مصر طوال تاريخها. فلما قامت الثورة، إذا بمخزون النكات ينفجر مرة أخرى، وأصبحنا نسمع في كل يوم عشرات النكات حول كل ما يقوم به النظام من محاولات عابثة للتمسك بالسلطة.

فكانت الهتافات الساخرة، واللافتات المضحكة تملأ ميدان التحرير، وتنتشر منها إلى أقطار الأرض. فكانت هذه الثورة هي الوحيدة في التاريخ المعروف التي يقيم فيها الثوار زاراً لطرد الرئيس.

من الأمور التي أثرت في نفسي، أنني أرسلت رسالة تهنئة لأهلي وأصدقائي في مصر. فجاءني اتصال من رجل لا أعرفه، من رقم مسجل عندي باسم أحد الأصدقاء. وبدأت المكالمة بالتهنئة، قبل أن أنتبه إلى اختلاف الصوت. فلما أدركت الخطأ اعتذرت للرجل عن الإزعاج. فما كان منه إلا أن قال لي: “بل أنا سعيد بسماع صوتك، وأنك تهنئني”، وأوصاني بأن أحافظ على البلد، وأن علينا أن نعمل معاً دائماً من أجل بلادنا، لكي لا يعود عهد الظلم والفساد مرة أخرى. هذه الروح الودودة التي كنت قد افتقدها في مصر منذ زمن.

هذه مجرد مشاهدات عن بعد عن الثورة المصرية الفريدة من نوعها. اقترحت بعض وسائل الإعلام تسميتها بالثورة الضاحكة، ولكني لا أجد لها اسما أنسب من الثورة المصرية.

فهي ثورة مصرية صميمة، لا تشبهها ثورة أخرى، ولا يمكن قياسها على تاريخ الثورات، ومن الصعب أن يقاس عليها ثورة أخرى. إلا في بد مثل مصر، ولا يوجد بلد مثل مصر، فهي تدور في فلك وحدها.