تشويه التاريخ2

 تشويه التاريخ

فيلم صلاح الدين مثالا 2

أما عن تصوير هذا العصر، فقد أساء الفيلم أشد الإساءة إلى صلاح الدين، وإلى جيشه ورجاله، وإلى حضارة المسلمين حينها أشد إساءة. وتكاد هذه الإساءة تتكرر في كل مشهد من مشاهد الفيلم. فصوّر الخير شرا والشر خيرا، وقلب الحقائق واختلق ما شاء له خياله المريض، وفهمه السقيم.
ففي أحد المشاهد، صور كيف قتل صلاح الدين البرنس أرناط (رينالد دي شاتيون). وأظهر كيف أبى صلاح الدين أن يقتل رجلا أعزل، فأعطاه سيفا ليبارز به، ثم قتله في المبارزة. وليست هذه بطولة بل حماقة. فالأمر كان تنفيذ حكم إعدام بحق مجرم حرب، لم يترك سببا لقتله إلا ارتكبه. من نقض للعهود واعتداء على قوافل آمنة بموجب معاهدات، واعتداء على الحجاج، ومحاولة الاعتداء على بيت الله الحرام في مكة، والسخرية والتطاول على رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي الأسباب التي جعلت صلاح الدين ينذر مرتين أن يقتله إن تمكن منه.
وبعد انتهاء معركة حطين، جلس صلاح الدين مع ملك القدس، وبقية الأمراء الأسرى (بغير عهد ولا أمان ولا ذمّة). فطلب الملك ماء، فسقاه صلاح الدين، فشرب الملك وأعطى أرناط، فقال له صلاح الدين “أنت سقيتَه، ولست أنا الذي سقيتُه” وكانت العادة أن الأسير إذا أُطعم أو سُـقي كان ذلك أمانا له. ولم يُرِد صلاح الدين أن يعطي الأمان لأرناط. ثم ذكّر البرنس الأسير بجرائمه ونقضه للعهود، وسأله: “ماذا كنت فاعلا لو كنت مكانك وكنت مكاني؟” فأجاب الأسير:”كنت أقتلك” فقال صلاح الدين: “قد حكمت”. وقتله.. (قيل ضربه بسيفه، وقيل أمر به فقتل)
فهذا تنفيذ حكم إعدام، وليس قتلا لغضب أو انتقام شخصي، وليس قتل غيلة، ليقال قتل رجلا أعزل. (مثلما فعل البرنس كثيرا) وقد كان البرنس أرناط يحمل سيفه في المعركة فلم يغن عنه شيئا، وهزم وقومه، وأسر وليس به قوة أن يلقي سيفه.
أمن العقل أن أقدر عليه، فأعيد إليه سيفه وأعينه على قتال مسلم مرة أخرى بعد أن أمكن الله منه؟
أهذه بطولة أم حماقة؟
 أم أنها محاولة لإظهار تنفيذ الإعدام في صورة الجريمة؟ ليصبح ما فعله خلفاء المسلمين وحكامهم، من تنفيذ أحكام الإعدام، جرائم تستحق الإدانة.
صورة أخرى،،
في الفيلم،
عند وصول ريتشارد إلى فلسطين، أسرع صلاح الدين مع رجلين من قواده، للقاء جيش الإنجليز ليطلب منه السلام. وفي هذا تذلل كريه، وتهور مذموم. فلم يوجد قائد عاقل في ذلك الزمن أو أي زمن آخر، يذهب إلى عدوه في جمعه وجيشه، فردا أو مع رجل ورجلين. وإنما يرسل رسولا من قبله، يكون له عينا على عدوه، ولسانا يخاطبهم به.
أما إذا أردت أن تعرف كيف كان يلتقي الملوك. انظر إلى قائد الفرس حين أراد لقاء هرقل، (في الحرب الأخيرة بينهما) أرسل إليه قائلا “القني في خمسين من رجالك، فإني آتيك في خمسين من قومي” والتقيا فردين بين الصفين. ليتفاوضا. وعندما ذهب عمرو بن العاص إلى لقاء قائد الروم (الأرطبون) ذهب كرسول من عمرو، ولم يخرج سالما إلا بمكيدة.
هكذا كانت ترتب لقاءات الملوك والقادة المتحاربين. وليس بأن يذهب القائد فردا ليستجدي السلام من غزاة محاربين.
قدرات صلاح الدين..
لم يكن صلاح الدين رجلا خارقا يعرف كل شيء ويجيد كل صناعة.
كان قائدا عسكريا مظفرا، وإداريا ناجحا، وسياسيا داهية. ولكنه لم يكن طبيبا ولا عالم كيمياء. تحرص معظم أعمالنا على إظهار البطل كرجل خارق، متفوق في كل المجالات، ولا يفعل أحد غيره شيئا. فهو وحده يضع الخطط، ويقاتل ويبارز، ويخترع الأسلحة، ويعالج المرضى، ويفاوض العدو. وفي ذلك تعبير عن ثقافة تقديس القائد، وتكريس لها في ذات الوقت.
وقد حرص الفيلم أن يظهره عالما بالكيمياء يخترع مادة حارقة، اخترعها في الحقيقة رجل من عسقلان ليحرق أبراجا مغطاة بالجلود المغموسة بالخل لكي لا تحترق، (وذلك أثناء حصار عكا).
فإذا كان القائد هو الذي يعرف ويفهم ويجيد كل الأمور. فله الحق أن يستبد برأيه، وينفرد بالقرار وحده. ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبد برأيه، ولا ينفرد بقرار (إلا أن يكون وحيا، فعليه وعلى المسلمين جميعا السمع والطاعة) بل كان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه، وينزل على الرأي الأصلح. وهكذا كان الصالحون من حكام المسلمين وقادتهم. وهكذا كل قائد ناجح. فالمرء قليل بنفسه كثير بإخوانه.
بالتأكيد لم يعرف عن صلاح الدين علم بالطب والكيمياء. فهو رجل شغلته الإدارة والحروب والسياسة. كان يجيد شؤون الإدارة التي تعلمها من أبيه، وقد كان أبوه إداريا مميزا في زمانه، وشؤون الحرب والقتال التي تعلمها من عمه (أسد الدين). ولا بد للإداري أن يعرف الفقه (القانون). ولم يكن فقيها، ولكنه كان على علم بالفقه والأدب واللغة. فهذه علوم يجب أن يحصلها من كان في منزلته ودرجته. وكان محاطا بالعلماء والفقهاء والأطباء. من ذوي الخبرة والكفاءة. وهؤلاء هم من كانوا يقومون كلٌ بما يختص به. وكان عامة أهل البلاد من المسلمين أكثر علما بكثير من علماء أوروبا. وكان أهل الصناعات يتطوعون وقت الحاجة بتقديم ما لديهم من علم وخبرة لتطوير سلاح جديد، أو علاج ناجع، لخدمة الإسلام والمسلمين.
ما لم يظهر في العرض التاريخي.. وهو ما أهتم كثيرا بتوضيحه.
لم يكن صلاح الدين هو القوي الوحيد في أوساط قومه، بل كان قائدا قويا لأمة قوية، ومجتمع قوي وجيش قوي..
وكان هذا المجتمع القوي والأمة القوية، تحتاج إلى قائد قوي يجيد استعمال قواها لتحقيق أهدافها..

تشويه التاريخ1

تشويه التاريخ

فيلم الناصر صلاح الدين مثالا

لا يخفى على أحد أهمية التاريخ في بناء ثقافة الفرد ووعيه. وفي بناء منظومة القيم للفرد والمجتمع. فالتاريخ بلا مراء يدخل في تشكيل شخصية الفرد والمجتمع. ونظرة المرء إلى تاريخ أمته، تحكم نظرته إلى كثير من الأمور. وفهمه لسوابق الأحداث مفض إلى فهمه للواحقها.

ولذلك حرصت الأمم على حفظ تاريخها، وسرده وعرضه للأبناء والأحفاد، وتوارث هذا التاريخ عبر الأجيال المتعاقبة. ويبدأ هلاك الأمم بفقد تاريخها، فتصبح منقطعة عن ماضيها، تائهة في حاضرها، لا مستقبل لها إلا أن تبدأ من جديد، أو أن تلتحق بأمة أخرى ذات تاريخ.

وفهم التاريخ ينبني على أمرين، الأول معرفة الأحداث الرئيسية من الحروب والمعارك، وتعاقب الحكام وصراعاتهم، والثورات والدعوات المختلفة. وهذا ما يسجله المؤرخون، ويلقنه المعلمون لطلابهم.

والآخر هو تصوّر الماضي، وهو الأمر الأصعب. تصور كيف كان يتكلم الناس في زمن مضى، وكيف كانوا يفكرون. تصور أحلامهم ومخاوفهم. وهو ما تسجله لنا آدابهم وفنونهم، شعرا ونثرا، كتبا وخطابة وتواقيع. ويحتاج دارسه إلى الكثير الكثير من الدراسة والقراءة؛ ليعيش في زمنهم بأخلاقه وآدابه، وقيمه وقوانينه. وهذا التصوّر ضروري لفهم خبايا التاريخ. وتفسير بعض غوامض الأحداث. وضروري كذلك لتحقيق الأخبار، والتأكد منها. فأنت حين تعرف شخصا، تستطيع في كثير من الحالات أن تكذب رواية عنه لا تستقيم مع ما تعرفه عنه.

وكلا الأمرين (معرفة الحوادث وفهم الطبائع) ضروري ولازم لتواصل الأجيال، وتوارث القيم. وكلا الأمرين يتعرض للتشويه المستمر والمتعمد، لخدمة أغراض لا تخفى على من يحسن النظر في عواقب الأمور. وهذا التشويه يتخذ أشكالا وصورا عديدة. من كتب ودراسات، وأبحاث ومقالات، وأفلام ومسلسلات. وهذه الأخيرة عظيمة الأثر، في أمة لم تعد تقرأ. فكثير من معارف الشباب عن التاريخ مستقاة من أفلام ومسلسلات، وقليل منها الجيد الصادق. وكثير منها الغث المفسد. وسأعرض هنا لنموذج من الأشهر، إن لم يكن الأشهر على الإطلاق، ولسبب ما يعتبره الكثيرون أحد أعظم الأعمال الفنية التاريخية.

وهو فيلم الناصر صلاح الدين.

وهذا الفيلم نموذج ممتاز لحجم تأثيره، فمعظم الشباب الذي سألتهم عن صلاح الدين الأيوبي، لم يكن يعرف عنه إلا ما جاء في هذا الفيلم. وهو في معظمه مكذوب مشوّه.

كما أن هذا الفيلم يمتاز بجمعه لكل أشكال التشويه والخطأ والعبث في التاريخ، أحداثا وصورا وشخصيات.

ففيه من الأخطاء في التاريخ الكثير، ومن تشويه الصورة الكثير، ومن اختلاق شخصيات والعبث في تاريخ شخصيات أيضا الكثير.

ومن أخطاء التاريخ الواضحة في هذا الفيلم:

سقوط عكا…

 

التي أظهر الفيلم سقوطها على غفلة بسبب خيانة.. ولم يكن الأمر كذلك قط..

بل كان سقوط عكا على إثر حصار طويل استمر ما يزيد على عشرين شهرا، دارت فيها رحى المعارك على الطرفين؛ حيث كان الفرنجة يحاصرون عكا، وصلاح الدين يحاصر الفرنجة. واستمر تدفق إمدادات الفرنجة من البحر يتوالى.. وعجز صلاح الدين عن كسر الحصار على عكا.. وعجز المحاصَرون داخل المدينة عن مواصلة المقاومة، فسُلمت المدينة على أمان لأهلها، أن لا يقتل منهم أحد..

فهم لم ينزلوا على حكم آسرهم، وإنما نزلوا على عهد وأمان من خائن (ريتشارد قلب الأسد) قتلهم وألقى جثثهم من فوق سور المدينة، استشفاء لضغائنه وحقده على الإسلام والمسلمين.

ولسبب ما حرص الفيلم على إظهار أسف ريتشارد لمثل هذا العمل، مع أنه هو من أمر به، وحرص كذلك على إخفاء حقيقة أن الأسرى الذين غدر بهم، كانوا قد نزلوا على أمان وعهد.

والمدينة التي سقطت بخيانة هي مدينة أنطاكية، سقطت بخيانة بعد حصار طويل أيضا، وكادت المجاعة أن تهلك الفرنجة المهاجمين، ولم تكن إنطاكية لتسقط لولا تلك الخيانة. ولكن قدّر الله وماشاء فعل. وكان ذلك في بداية الحروب الصليبية في عام 1099.

 

عيسى العوام…

 

جعله الفيلم قائدا من كبار قادة صلاح الدين، وساعده الأيمن، وأكد على كونه مسيحيا (وهو رجل مسلم) .

ولكن الطريف أن عيسى العوّام، (والعوّام مهنته) قد كان سباحا.. كان قد غرق أثناء حصار عكا.. حين كان سابحا إلى عكا محملا برسائل وأكياس من ذهب في ليلة عاصفة، وبعد غرقه عثر القوم على جثته على شواطئ عكا بعد أيام، ومازالت الرسائل والأكياس معلقة في حزامه. ولذلك قالوا :”لم نر رجلا أدى الأمانة حيا وميتا كعيسى العوام”. وهذا سبب شهرة الرجل.

علاقة صلاح الدين وريتشارد

 

أظهر الفيلم عواطف نبيلة متبادلة بين ريشارد وصلاح الدين، ولقاءات، وسهر صلاح الدين بجوار ريتشارد حتى يتعافى من سهم أصابه، إلى آخر هذه الخزعبلات.

مع أن التاريخ يقول إن ريشارد لم يلتق بصلاح الدين يوما. صحيح أنه طلب لقاءه، وألح في الطلب.. إلا أن صلاح الدين رفض لقاءه في كل مرة، إلا بعد إتمام الصلح.. قائلا :”قبيح بالملوك أن يأكلوا ويشربوا معا، ثم يقاتل بعضهم بعضا، فإذا كان الصلح التقينا وأكلنا معا”.

وهذا من فن التفاوض عند صلاح الدين، وهو ما يستحق إفراد مقال مستقل له.

وبعد الصلح، سمح صلاح الدين للفرنجة بزيارة بيت المقدس في مجموعات صغيرة، ورفض ريتشارد أن يدخل المدينة زائرا بعد أن كان يمنّي نفسه بدخولها فاتحا مظفرا. وبذلك أضاع على نفسه فرصة الحج، وزيارة بيت المقدس، وفرصة لقاء صلاح الدين. فلم يحقق من حملته أيا من أهدافه التي خرج لها.

أما عن تصوير هذا العصر، فقد أساء الفيلم أشد الإساءة إلى صلاح الدين، وإلى جيشه ورجاله، وإلى حضارة المسلمين حينها أشد إساءة. وتكاد هذه الإساءة تتكرر في كل مشهد من مشاهد الفيلم. فصوّر الخير شرا والشر خيرا، وقلب الحقائق واختلق ما شاء له خياله المريض، وفهمه السقيم.

وسأتناول بعض ذلك في الإدراج التالي بإذن الله.