توقفت المعركة ولم تنته الحرب


توقفت المعركة ولم تنته الحرب

بدأ أخيرا وقف إطلاق النار في الأراضي الفلسطينية، بين أهل البلاد والمحتل الغاصب. وهذا مجرد وقف للقتال، قد يتطور إلى هدنة قريباً، إذا لم يغدر العدو كعادته.

وأحسب أنه فرصة جيدة لأهل غزة لالتقاط الأنفاس، والحصول على ليلة ينامون فيها مطمئنين.

وفرصة لنا للنظر في الوضع كله، نظرة ليست تحت ضغط المعركة القائمة. فالكلام أثناء المعركة لا يحتمل إلا الحديث عن الصمود ووجوب النصر. بعدها يمكن الحديث عن المكاسب والخسائر والتقييم وغير ذلك من الأمور.

بداية، علينا جميعا أن نتذكر أن معركة سيف القدس مجرد حلقة في سلسلة طويلة ممتدة، لا تنتهي إلا بتحرير كامل الأرض.

ثم نتذكر أن قياس النصر والهزيمة يعتمد على تحقيق الأهداف المرجوة من كل عملية عسكرية، وأن القتال هو تفاوض سياسي عنيف.

هذه العملية العسكرية كان لها هدف أساسي معلن، وهو وقف محاولة اقتحام المسجد الأقصى المبارك. وهو ما تحقق بمجرد انطلاق صافرات الإنذار في القدس المحتلة. بهذا التوقف سجلت المقاومة انتصارها الأول والأساسي في تقديري. كل ما جاء بعد ذلك يأتي في سجل المكاسب الإضافية أو ثمن النصر. فهناك مئات الشهداء من المدنيين والنساء والأطفال والرجال والمقاتلين كذلك. نسأل الله أن يتقبلهم في الشهداء وأن ينفعنا بدعائنا لهم.

وهناك المباني المهدمة والبنية التحتية المدمرة والكثير من الخسائر التي تسبب فيها القصف الوحشي المتعمد على الأهداف المدنية في قطاع غزة. وهذا ضمن ثمن النصر.

على الجانب المقابل، فقد تحقق الكثير مما لم يسبق تحقيقه في هذه الحرب الطويلة. ففي اليوم الأول للمعركة حققت المقاومة الهدف المعلن، وفرضت إراداتها على العدو تماما. بوقف محاولة اقتحام المسجد المبارك، واختفاء قطعان المتطرفين الراغبين في اقتحامه.

كذلك تم دك تل أبيب، وإغلاق مطار بن غوريون، وإغلاق مطار رامون في مدينة إيلات، وهذه أول مرة أسمع عن قصف لمدينة إيلات منذ وعيت على الدنيا. مع أنها على رمية حجر من العقبة الأردنية وطابا المصرية.

أعتقد أن هذه المعركة قد غيرت وجه الحرب بصورة كبيرة. من عدة أوجه.

منها تهديد الكيان وسكانه في جميع الأراضي المحتلة، لم يعد هناك مناطق آمنة بعيدة عن ذراع المقاومة. وهذا في ظني أهم مَقاتِلِ العدو. هذا العدو يعتمد على هجرات اليهود إليه من مختلف بلاد العالم. والمهاجر في العادة يبحث عن الأمن أولا. فضرب الإحساس بالأمن يقتل نمو هذا الكيان.

ومنها تحقيق قدر كبير من توازن الرعب والألم. صحيح أن القدرة النارية للعدو مازالت أعلى كثيراً، وإجرامه ووحشيته لم تتغير. ولكن يظل العنصر الفارق في المعادلة في قوله تعالى “وَلَا تَهِنُواْ فِي ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا“. فإيمان أهل فلسطين بأنهم يقاتلون على الحق وأن عدوهم على الباطل، وأن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، يجعلهم أكثر قدرة على تحمل الخسائر في المال والنفس، من الصهاينة الذين ليس لديهم مثل هذه العقيدة. هذا التباين في العقيدة كان أساس صمود المقاومة عبر العقود، ولم تكن لهم قدرة كبيرة على إيلام العدو والنكاية فيه. واليوم تحقق للمقاومة قدرة عالية على إيلام العدو؛ مما يجعل كفة الميزان تعتدل بشكل أكبر.

كذلك لابد من الإشارة إلى مشاركة عرب أراضي 48 في العمليات، من خلال التظاهرات والإضراب وغيرها. وهذا مؤشر شديد الأهمية على تغير بعيد المدى في طبيعة الصراع الوجودي بين أهل البلاد والاحتلال الاستيطاني البغيض.

في المعارك السابقة كنا نعتبر أن فشل الاحتلال في إنهاء المقاومة وتصفيتها انتصاراً. وقد كان كذلك بالفعل. أما اليوم، فإن الانتصار هو فرض إرادة المقاومة على العدو في مسألة أو أكثر.

كذلك تغير الصوت العالمي تجاه القضية، فقد رأينا العديد من المشاهير والسياسيين في العالم يدافعون عن حق الشعب الفلسطيني، رأينا أعضاء كونجرس يطالبون بوقف إطلاق النار. وهذا كله جديد تماماً ويبشر بتغير في الصوت العالمي ولو بعد حين. ولكنه يتطلب أن لا ننسى نحن، وأن نستمر في الدعم الإعلامي للقضية.

أما الفرق الأكبر الذي رأيته، فهو تغير في قلوب الناس، داخل فلسطين وخارجها. وقد رأيت بعضاً منه في تعليقات الناس على وسائل التواصل وعلى الأرض. في المعارك السابقة، كانت النغمة السائدة بين الناس هي رجاء أقل الخسائر بين المدنيين، والحديث المستمر عن بدائل المقاومة المسلحة ومناقشة مدى جدواها. في هذه المعركة كان هناك الكثير من السخرية من العدو ومن قوته العسكرية المزعومة، ومن أقوال قياداته وإعلامه. وهناك الكثير من التوقعات من المقاومة، بل ومطالبات لها أن لا تقبل بوقف إطلاق النار إلا بشروط عالية وبثمن كبير.

هذا الشعور بإمكانية النصر، بل بحتمية النصر، سوف ينعكس بصورة كبيرة على جوانب عديدة إذا أحسَنّا استثماره وعملنا على رعايته وتنميته. خاصة وقد نجح العرب والمسلمون في تحقيق انتصارات لطيفة في مجال الصراع الإعلامي، بعد إرغام بعض وسائل التواصل الاجتماعي على مراجعة موقفها وسلوكها من الأصوات الداعمة للحق الفلسطيني، وهي معركة علينا الاستمرار فيها وعدم الركون إلى ما تحقق. فالعدو لن يهدأ وسيسعى إلى استعادة ما فقده إعلامياً.

لقد نجحت المقاومة في المعركة الأخيرة، في تحطيم أسطورتين مهمتين جدا للكيان. الأولى القبة الحديدية التي يحاول إعلام العدو تغطية سوأتها بالتأكيد على قدراتها العالية في التصدي لمعظم صواريخ ومقذوفات المقاومة. والثانية الأمن المعلوماتي. الكيان لديه أهم شركات أمن المعلومات في العالم، ولكنه فشل في حماية أمن معلومات مخابراته وأجهزته الأمنية. فقد نجحت المقاومة في اختراقها والحصول على أسماء المتعاونين مع العدو. وقلع أعينه في داخل القطاع.

نجحت المقاومة في زراعة الأمل في قلب الشعب العربي والإسلامي كله. وقتل الشعور باليأس من التحرير واليأس من الانتصار في أي معركة. كما نجحت في تحطيم أسطورة القبة الحديدية، وإنهاء أسطورة القدرة الفائقة للاحتلال. وكسر المناصرة العمياء للغرب كله للكيان المحتل والدفاع عنه في كل حال.

هذه مجموعة من المكاسب التي حققتها المقاومة حتى الآن.

هذا بعض ما تحقق، وعلينا أن نتذكر مرة أخرى أن الحرب لم تنته. فما زال هناك طريق طويل. لا ينبغي أن يقطعه المقاتلون وحدهم. فما تحقق على وسائل التواصل ينبغي أن يستثمر. وهذا دور الدعم الشعبي للحق الفلسطيني. وما تحقق من شعور بالعزة والكرامة ينبغي رعايته. فأبواق العدو بيننا من المنافقين والمثبطين والذين في قلوبهم مرض، لن يتوقفوا عن زرع الفتنة وتثبيط الهمم ونشر اليأس بين الناس. وعلينا أن نكون لهم بالمرصاد. والله المستعان عليهم.


سيتحرر الأقصى، وستتحرر كامل أرض فلسطين يوما ما. ونسأل الله أن يكون قريباً. ونسأل الله أن يجعلنا من الفريق المدافع عن الحق.

ولعل هذه المعركة من مبشرات تحقيق وعد الله قريباً.

رد واحد

  1. الله على المقال الجميل، وبارك الله فى قلم الكاتب وعقله وتفكيره وتحليله ومشاعره النبيلة الكريمة

أسعدنا بتعليقك