الأوروبي والإنسان

عندما بدأت رحلتي في طلب المعرفة والثقافة. كان من ضمن من قرأته سير المستكشفين. من ضمنها سيرة فاكسو دي جاما، مكتشف رأس الرجاء الصالح، فوجدت أنه تعلم كيف يعبر هذا الممر من ملاح عماني، أحمد بن ماجد الذي أغفل الكتّاب ذكره. ثم قرأت عن نهر النيل، وقصة اكتشاف منابعه على يد رجل أوروبي، فوجدت أنه سأل السكان المحليين عن منبع النهر، فأرشدوه إلى المنبع. ومع ذلك يقولون إن هذا الأوروبي هو أول من اكتشف منابع النيل. ثم كانت الفاصلة عندي عندما قرأت عن ماركو بولو وأنه أول رجل ذهب إلى الصين. وتساءلت حينها (وكنت لم أجاوز الطفولة حينها) هل هو مؤسس الصين؟ أم كانت الصين خالية من الناس، وكان هو أول من ذهب إليها؟ فإذا بها كانت حضارة كبيرة مستقرة، بها ملايين البشر. وعندها بدأت أدرك أنهم عندما يقولون أول من فعل كذا أو أول من اكتشف كذا، فإنهم يقصدون أول أوروبي فعل ذلك. ومع مرور الأيام ازداد وعيي وإدراكي لأبعاد هذه الحقيقة، ومدى رسوخها في العقل والتركيب النفسي الأوروبي. وقس على نفس المعنى أول من اكتشف أمريكا وأول من اكتشف مضيق ماجلان. ولو رجعنا إلى تاريخ العلوم لوجدنا أنهم أخذوا اكتشافات واختراعات من الحضارة الإسلامية، ونسبوها إلى رجالهم، لأنهم لا يرون في الدنيا إنسانا إلا إذا كان أوروبيا. وأمريكا جزء من أوروبا في هذا الشأن، فالأمريكيين هم سلالة المهاجرين من أوروبا، وليسوا سكان البلاد الأصليين.

إن أحد أغرب مظاهر هذا التمييز المستقر في أعماق نفوسهم وعقولهم، الحملة التي أطلقوها قبل أعوام “حياة السود مهمة“، وكنت أرفض هذا الشعار وأستنكره، لأنني أؤمن أن “حياة الإنسان مهمة“. وقد تعلمنا أن الناس سواسية، وأنه لا فضل لعربي على أعجبي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى. هذا هو المعنى الراسخ لدينا المستقر في عقولنا ونفوسنا. ولم أكن أفهم إصرارهم على الإشارة إلى اللون في هذا الشعار، إلى أن حاورت بعض المتأثرين بثقافة الغرب بدرجة تسمح له بالتفكير مثلهم. فبين لي أنهم لا يرون الأمر كما نراه نحن، فإن قولنا “حياة الإنسان مهمة” يعني عندهم الإنسان الأبيض، أما إذا أردنا أن نشير إلى غيره، فعلينا أن نحدد ذلك بوضوح، حياة الإنسان الأسود، أو حياة الإنسان الأصفر. وهذا في الحقيقة يجعل الشعار نفسه عنصريا بامتياز. برغم أن وضع ليحارب العنصرية. إلا أنه يستبطن هذه العنصرية بشكل أساسي.

 

“في المدرسة أخبرتنا المعلمة أن الفاتح الإسباني (بالبوا) قد رأى من فوق إحدى قمم جبال بنما، المحيط الهادي من جهة، والمحيط الأطلسي من الجهة الأخرى. وقد كان هو -كما قالت المعلمة-أول إنسان برى البحرين العظيمين معاً. 

 رفعت يدي قائلاً:  يا آنسة، يا آنسة.

وسألتها:  والهنود، هل كانوا عمياناً.

فكان أول طردٍ في حياتي.”

———————————–

إدواردو غاليانو – من مجموعة (صياد القصص)

 

من مظاهر هذا الإحساس بالتمييز كذلك، فكرة البحث في الأصول العرقية لسكان البلاد المختلفة، على أساس الحمض النووي، وكأن كوني من أصل عربي أو تركي أو صيني أو أوروبي، هو الذي يتحكم في حياتي وسلوكي، أو هو أساس تكويني، وليس انتمائي الثقافي وهويتي اللغوية والدينية. إنهم ينظرون إلى الإنسان على أساس عرقي أولا. ولو تتبعنا مظاهر التمييز العنصري في أوروبا قديما وحديثاً فلن يكفي مقال ولا كتاب لحصرها، وإنما حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. لذلك، لم أتعجب من تعليق بعضهم على الحرب في أوكرانيا، أو اللاجئين منها إلى سائر أوروبا. بل عجبت من تعجب البعض عندنا من هذه التعليقات.

إنها حقيقتهم التي يحاولون أن يتهموننا بها، إنها عللهم التي لم يتمكنوا من علاجها، وعالجها الإسلام قبل قرون طويلة، بكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم. تلقفتها أمته وحرصت عليها. ونحن في عموم بلادنا لسنا بهذه العنصرية المقيتة، برغم ما يظهر أحياناً من سلوك قد يبدو عنصريا، وقد يكون بعضه عنصريا فعلاً، إلا أنه كسلوك عام لا ينحدر إلى المستوى المستقر في العقل الأوروبي، سواء على مستوى الجمهور، أو على مستوى من نعتبر أمثالهم عندنا نخبة، من صحفيين أو إعلاميين أو سياسيين. ولعل صعود اليمين الأوروبي دليل واضح على رسوخ هذا التمييز في نفوسهم، وتزايده في السنوات الأخيرة. إنهم – في عمومهم- لا ينظرون إلينا هذه النظرة المتعالية، لأننا مسلمون فقط، ولكن لمجرد كوننا غير أوروبيين، لسنا من ذوي البشرة البيضاء والشعر الأصفر والعيون الزرقاء. فليت قومي يعلمون.