أيرلندا الأولى في تطبيق تعاليم الإسلام؟


وجدت منشورا عند صديق على الفيسبوك، يقول
وضعوا معايير .. سنة 2015

فوجدوا أن ايرلندا الأولى في تطبيق تعاليم الإسلام
وهو عنوان مقال منشور في إحدى الجرائد الإلكترونية

وأضاف الصديق العزيز قائلا:

القيم العليا للإسلام ربما تكون هناك.. والشكليات كثيرا ما تكون في عالمنا العربي البائس

ثم أرفق رابطا للخبر.

ولولا معزة هذا الصديق عندي لما التفت إلى الخبر، ولا زرت الرابط. فلا أرى من العقل أن أصدق أن غير مسلم وضع معاييرا للإسلام، ليحكم بموجبها أن غير المسلمين أقرب إلى تطبيق قيم الإسلام من المسلمين. فهذا التركيب محكوم بفساده من داخله. ولكن لأنه صديق عزيز أحبه وأحترمه، فقد قررت قراءة الخبر. فوجدت فيه ما يثبت رأيي الأول. فقد ورد فيه وصف المعايير التي اعتبروها مقياسا لإسلامية تلك البلاد. فكانت الإنجازات الاقتصادية، والحقوق الإنسانية والسياسية، والعلاقات الدولية للبلد، ثم بنية السلطة فيه.

وأضاف الخبر قائلا:

“ويفسر البروفيسور حصول الدول الإسلامية على مراتب متدنية بسبب سوء الحكام واستعمال الدين كوسيلة للسلطة وإضفاء الشرعية على نظام الحكم، بينما تنص تعاليم القرآن على أن الازدهار الاقتصادي جيد بالنسبة للمجتمع.”


ولمناقشة الأمر هناك وجهان،

الأول ما هي تفاصيل ما زعموا أنها معاييرهم؟ فالمعايير المطلقة مقبولة من الجميع، ولكن في تعريفها وتفصيلها قد يختلف الأمر كثيرا.
الإنجازات الاقتصادية، هل هي متوسط دخل الفرد؟ أم هي مجموع متوسط الدولة؟ أم عدد الفقراء فيها أم عدد الأغنياء؟ أم غير ذلك؟

هل البلد الغني صاحب أكبر اقتصاد في العالم، يعتبر مقدما في هذا المعيار، وإن كان عشرات الآلاف فيه لا يجدون مأوى، ويسكنون صناديق في الطرقات، ويأكلون من القمامة إن وجدوا ما يأكلونه منها؟

الحقوق الإنسانية والسياسية: هل يعنون بالحقوق الإنسانية، أن يعيش الإنسان عيشة آمنة، يجد فيها ما يكفيه؟
وهل يكفي فيها حق التعليم المجاني الجيد، والعلاج المجاني المناسب؟ أم أنها بالضرورة يجب أن تشمل دعم الميول الجنسية المتعددة؟
وهل يكفي فيها الحق في اعتقاد ما تشاء، أم لا بد من الحق في سب الأديان والتطاول على الأنبياء وعلى ذات الله عز وجل؟ أو لا بد من تأييد ما تراه السلطة أو الجمهور واجب التأييد؟

هل يكفي فيها ابداء الرأي في أداء الحكام بالقبول أو الاعتراض، أم لابد من قبول سبهم والسخرية منهم وإهانتهم؟

لن أناقش الحقوق السياسية، فهي معدومة في مجمل بلادنا. وهي المدخل الحقيقي الذي يجعل هذه الدراسات محل تقدير البعض عندنا. ولكنها أيضاً جديرة بالتعريف والتوضيح.

العلاقات الدولية: هل يدخل فيها فرض العقوبات على كل دولة لا تود الخضوع للقوى العظمى، أم تشمل غزو البلاد البعيدة لتحمل عبء الرجل الأبيض؟ بلادنا الإسلامية المسكينة لا تملك أن تغضب بلدا آخر علانية. بل غاية ما تفعله بلادنا هو الشجب والاستنكار.
أم يرون أن العلاقات الدولية يدخل فيها فرض إملاءات على الدول المستضعفة كما تفعل الدول الكبرى؟ فأمريكا تفرض ما تريد من أنظمة مالية ورقابة على تحرك الأموال، وأوروبا – لاحظ أن أيرلندا جزء من أوروبا المذكورة – تفرض على الخليج فرض ضرائب على التجارة والمواطنين والمقيمين، وروسيا تفرض أنظمة حاكمة بقوة السلاح.

أم المقصود منه أن تكون علاقة الدولة جيدة بجميع الدول؟ حتى التي تحاربني وتغزو بلادي وتنهب ثرواتي؟

أخيرا بنية السلطة: وهذه من الطبيعي أن تتباين من دولة إلى أخرى. حسب البناء الاجتماعي وتوزيع القوى في البلد. فما صلح لأمريكا لم يصلح لبريطانيا، وما صلح لألمانيا لم يصلح لفرنسا، وانفردت سويسرا بنظام خاص بها. ولم أذكر هنا الدول التي لا يحبها “النخبة” في بلادنا مع أن بعضها حقق الكثير من الإنجازات الاقتصادية، مثل الصين أو الهند أو روسيا. ولكل منها نظامه الخاص. فأيها في نظر صاحب الدراسة هو المعيار الذي يتوافق مع ما جعله أقرب إلى الإسلام؟

هذه معارضة في أساس الدراسة ذاتها، ومدى صلاحية معاييرها في قياس أي شيء.

—–

من جهة أخرى أراها أهم،

من الذي زعم أن هذه هي معايير الإسلام؟ أو أن هذه المعايير من الإسلام؟

من الذي زعم أن الإنجازات الاقتصادية ضمن معايير الإسلام؟
هل أرسل الله رسوله إلى الناس لتحقيق إنجازات اقتصادية؟ أم داعيا للاستسلام لله والخضوع لأحكامه؟ ما هو أساس “الإسلام” الذي دعا إلى إليه جميع الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم؟
وزعموا أن المعيار الثاني هو الحقوق الإنسانية والسياسية. وهو عنوان بالطبع يثير أحزان كثير من المسلمين. ولكن لم تبين الدراسة ما هي بالضبط الحقوق الإنسانية والسياسية التي يزعمون؟ وبالرغم من عدم رضاي عن أوضاع الحقوق عموما في بلاد المسلمين. فهل ما يحزنني هو ذات ما يحزنهم؟ هل اعتراضهم مثلا على منع “الإسلاميين” أم على منع زواج المثليين؟ هل يرون القصور في حقوق الإنسان في عدم المساواة بين “الأنواع”؟
وهل حديثهم عن القصور في حرية التعبير، تعني عدم السماح بنقد الحاكم في بعض البلاد؟ أم هي فقط عدم وجود حرية التعدي على الأديان والتطاول على الأنبياء والمرسلين، بل وعلى ذات الله عز وجل؟ أم لعلهم يقصدون بها منع الحق في السكوت عن تأييد الشذوذ والشواذ جنسياً؟
هل يدخل في الحقوق الإنسانية، حق التعليم المجاني والعلاج المجاني للمواطن؟ وهو الأمر المتحقق في عدد من الدول العربية، بعضها في مراتب عالية على المستوى العالمي، أكثر من الغرب بكثير، أم أن هذا لا يشفع لهذه الدول في منع زواج المسلمة من غير المسلم؟ أو زواج الذكرين أو السماح بتعدد الزوجات؟
هل لو ألغينا القوامة، وألغينا نصوص تجريم ازدراء الأديان، سيرضون عنا، ويرتفع تقييمنا عندهم؟ ما هي بالضبط معايير الحقوق الإنسانية؟ وخاصة أن الدولة المقدمة عندهم هي واحدة دول الاتحاد الأوروبي، بقوانينه المتعلقة بحقوق الإنسان.
هذه أسئلة تحتاج إلى إجابة، وأمور تحتاج إلى بيان في مجموع ما سموه الحقوق الإنسانية. أما الحقوق السياسية، فلا شك أنها ليست في حالة مرضية في بلادنا الإسلامية في مجملها.

وصحيح أن الإسلام جاء ليعطي كل ذي حق حقه، ولكن هذا لا يعني إعطاء كل أحد ما يدعي أنه حقه.
ثم تأتي العلاقات الدولية. ولا أدري ما علاقتها بتطبيق الإسلام. علما بأن بلادنا الإسلامية في مجملها مسالمة للعالم كله، مسالمة الضعيف المستكين. فلا تملك أن تفعل أكثر من بيانات الإدانة إلى من يسيء إليها اقتصاديا أو سياسيا أو يسيء إلى دينها أو تاريخها.

أخيرا بنية السلطة، وهذه أيضا لا علاقة لها بالإسلام. إذ الغاية في الإسلام أن يكون الحكم عدلا، وحفظا لحقوق الناس وأمنهم. وهذا يعتمد في كل بلد على تركيبته الاجتماعية الداخلية. فإذا كان نظاما ما يناسب التركيبة الاجتماعية وتوزيع القوى في أوروبا فلا يعني هذا أن يناسب مصر. ولو ناسب نظام بلدا كمصر، فلا يعني أنه يناسب مجتمعا قبليا مثل الأردن أو السعودية. وقولي هنا لا يعني تأييدا لما هو قائم في أي بلد، ولكنها مناقشة في الأساس العلمي للمعايير ذاتها. فقد تحقق العدل والرشاد في حكم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهو نظام في المعايير الحالية نظام حكم الفرد، الذي يملك الصلاحيات التشريعية والتنفيذية والقضائية الكاملة.

وفي نهاية الخبر جاءت عبارة “ويفسر البروفيسور حصول الدول الإسلامية على مراتب متدنية بسبب سوء الحكام واستعمال الدين كوسيلة للسلطة وإضفاء الشرعية على نظام الحكم، بينما تنص تعاليم القرآن على أن الازدهار الاقتصادي جيد بالنسبة للمجتمع”.

ولا أدري من أين جاء بتعاليم القرآن التي تنص على الازدهار الاقتصادي.
—-

ماذا لو أجريت هذه الدراسة على الدول الإسلامية عبر التاريخ؟

وليسمح لي القارئ أن أبدأ من العهد النبوي. أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات تقريباً حاكما على المدينة المنورة. في بداية الدولة الإسلامية.
فما هي الإنجازات الاقتصادية التي تحققت؟ هل أقيمت الصناعات؟ أو امتدت خطوط التجارة؟ أو زادت الرقعة الزراعية؟ لا شيء من هذا كله، هل زادت ثروات الناس في المدينة المنورة؟ أيضا لم يحدث.
الحقوق الإنسانية والسياسية: كان العدل هو أساس الأمر (والشورى)، في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت الحدود مطبقة على الجميع، كبيرهم وصغيرهم، شريفهم وضعيفهم. ولكن ليس كما يحب الباحث الأوروبي، فكان الفحش في سب رسول الله صلى الله عليه وسلم عقابه القتل. ولم يكن مسموحا بإعلان الاعتراض على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وإن كان مسموحا في بعض الأحوال بمراجعة رسول الله في بعض قراراته وأحكامه، ولكن يظل قوله فصل). وطبعا لم تكن الحقوق “الإنسانية” التي يحبها الغرب قائمة، بل كانت مجرمة ومازالت مجرمة في معظم بلاد المسلمين. أما الكلام عن الحقوق السياسية. فلا معنى لمناقشتها في ذلك العصر.
ثم العلاقات الدولية. قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم معظم فترة حكمه في حرب مع قريش، ومع غيرها من قبائل العرب واليهود في الجزيرة. وبعد انتهاء الحرب في الجزيرة بدأت الحرب مع الروم في غزوة مؤتة، ثم مات صلى الله عليه وسلم، وجيشه مستعد للخروج بقيادة أسامة بن زيد لحرب الروم. وكانت من وصيته على فراش الموت “أنفذوا بعث أسامة”. ولم تكن علاقة الفرس بالمسلمين أفضل من علاقة الروم بهم. ثم كانت الحرب قد بدأت بين المسلمين وبني حنيفة في نجد. فهذا يعطينا فكرة عن “العلاقات الدولية”.

أما بنية السلطة، فقد كانت كل السلطات الدستورية في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الحكم فيما شجر من خلاف بين أهل الصحيفة، ولا يخرج من المدينة أحد إلا بإذنه. وهو المشرع والقاضي والآمر والناهي. وهي سلطة انتقلت إلى خليفته. وإن كان الخليفة محكوماً بنص القرآن الذي اكتمل نزوله، وبأحكام السنة النبوية التي لا يملك أن يجاوزها.

ولو قسنا نفس المعايير في عهد الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء الراشدون المهديون، الذي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعهم. لكان أيضاً النتائج في الأغلب في صالح الصين، ولا أظن مسلما عاقلا يقبل أن يقال إن الصين كانت أقرب إلى معايير الإسلام من الخلفاء الراشدين.

ما أعرفه من معايير الإسلام، أن أولها الإيمان بالله، وقد تشمل تنفيذ أحكام الإسلام، وإقامة العدل (كما نعرفه في الإسلام)، وحماية القيم الإسلامية، وإعلاء كلمة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. ولكن ليس المعايير التي وضعها البروفيسور المذكور. ولا أظن النتائج بهذه المعايير ستخرج كما خرجت في دراسته.

وهذه الدراسة تذكرني بالقول المنسوب إلى الشيخ محمد عبده، “وجدت عندهم إسلاما بلا مسلمين، ووجدت عندنا مسلمين بلا إسلام”. وهو قول باطل على كل وجه، ولا تصح نسبته إلى الشيخ أصلاً. فهو قول لقيط باطل نسب إلى الشيخ زورا وبهتاناً.

صحيح أن حال بلاد المسلمين لا ترضي، وتحقيق العدل بها قاصر، وتطبيق الإسلام بها دون المطلوب بكثير. ولكن هذا لا يعني أن نجعل قدوتنا في تطبيق الإسلام غير المسلمين، وهدفنا في تطبيق الإسلام غير الإسلام.

والله تعالى أعلى وأعلم.