أيرلندا الأولى في تطبيق تعاليم الإسلام؟


وجدت منشورا عند صديق على الفيسبوك، يقول
وضعوا معايير .. سنة 2015

فوجدوا أن ايرلندا الأولى في تطبيق تعاليم الإسلام
وهو عنوان مقال منشور في إحدى الجرائد الإلكترونية

وأضاف الصديق العزيز قائلا:

القيم العليا للإسلام ربما تكون هناك.. والشكليات كثيرا ما تكون في عالمنا العربي البائس

ثم أرفق رابطا للخبر.

ولولا معزة هذا الصديق عندي لما التفت إلى الخبر، ولا زرت الرابط. فلا أرى من العقل أن أصدق أن غير مسلم وضع معاييرا للإسلام، ليحكم بموجبها أن غير المسلمين أقرب إلى تطبيق قيم الإسلام من المسلمين. فهذا التركيب محكوم بفساده من داخله. ولكن لأنه صديق عزيز أحبه وأحترمه، فقد قررت قراءة الخبر. فوجدت فيه ما يثبت رأيي الأول. فقد ورد فيه وصف المعايير التي اعتبروها مقياسا لإسلامية تلك البلاد. فكانت الإنجازات الاقتصادية، والحقوق الإنسانية والسياسية، والعلاقات الدولية للبلد، ثم بنية السلطة فيه.

وأضاف الخبر قائلا:

“ويفسر البروفيسور حصول الدول الإسلامية على مراتب متدنية بسبب سوء الحكام واستعمال الدين كوسيلة للسلطة وإضفاء الشرعية على نظام الحكم، بينما تنص تعاليم القرآن على أن الازدهار الاقتصادي جيد بالنسبة للمجتمع.”


ولمناقشة الأمر هناك وجهان،

الأول ما هي تفاصيل ما زعموا أنها معاييرهم؟ فالمعايير المطلقة مقبولة من الجميع، ولكن في تعريفها وتفصيلها قد يختلف الأمر كثيرا.
الإنجازات الاقتصادية، هل هي متوسط دخل الفرد؟ أم هي مجموع متوسط الدولة؟ أم عدد الفقراء فيها أم عدد الأغنياء؟ أم غير ذلك؟

هل البلد الغني صاحب أكبر اقتصاد في العالم، يعتبر مقدما في هذا المعيار، وإن كان عشرات الآلاف فيه لا يجدون مأوى، ويسكنون صناديق في الطرقات، ويأكلون من القمامة إن وجدوا ما يأكلونه منها؟

الحقوق الإنسانية والسياسية: هل يعنون بالحقوق الإنسانية، أن يعيش الإنسان عيشة آمنة، يجد فيها ما يكفيه؟
وهل يكفي فيها حق التعليم المجاني الجيد، والعلاج المجاني المناسب؟ أم أنها بالضرورة يجب أن تشمل دعم الميول الجنسية المتعددة؟
وهل يكفي فيها الحق في اعتقاد ما تشاء، أم لا بد من الحق في سب الأديان والتطاول على الأنبياء وعلى ذات الله عز وجل؟ أو لا بد من تأييد ما تراه السلطة أو الجمهور واجب التأييد؟

هل يكفي فيها ابداء الرأي في أداء الحكام بالقبول أو الاعتراض، أم لابد من قبول سبهم والسخرية منهم وإهانتهم؟

لن أناقش الحقوق السياسية، فهي معدومة في مجمل بلادنا. وهي المدخل الحقيقي الذي يجعل هذه الدراسات محل تقدير البعض عندنا. ولكنها أيضاً جديرة بالتعريف والتوضيح.

العلاقات الدولية: هل يدخل فيها فرض العقوبات على كل دولة لا تود الخضوع للقوى العظمى، أم تشمل غزو البلاد البعيدة لتحمل عبء الرجل الأبيض؟ بلادنا الإسلامية المسكينة لا تملك أن تغضب بلدا آخر علانية. بل غاية ما تفعله بلادنا هو الشجب والاستنكار.
أم يرون أن العلاقات الدولية يدخل فيها فرض إملاءات على الدول المستضعفة كما تفعل الدول الكبرى؟ فأمريكا تفرض ما تريد من أنظمة مالية ورقابة على تحرك الأموال، وأوروبا – لاحظ أن أيرلندا جزء من أوروبا المذكورة – تفرض على الخليج فرض ضرائب على التجارة والمواطنين والمقيمين، وروسيا تفرض أنظمة حاكمة بقوة السلاح.

أم المقصود منه أن تكون علاقة الدولة جيدة بجميع الدول؟ حتى التي تحاربني وتغزو بلادي وتنهب ثرواتي؟

أخيرا بنية السلطة: وهذه من الطبيعي أن تتباين من دولة إلى أخرى. حسب البناء الاجتماعي وتوزيع القوى في البلد. فما صلح لأمريكا لم يصلح لبريطانيا، وما صلح لألمانيا لم يصلح لفرنسا، وانفردت سويسرا بنظام خاص بها. ولم أذكر هنا الدول التي لا يحبها “النخبة” في بلادنا مع أن بعضها حقق الكثير من الإنجازات الاقتصادية، مثل الصين أو الهند أو روسيا. ولكل منها نظامه الخاص. فأيها في نظر صاحب الدراسة هو المعيار الذي يتوافق مع ما جعله أقرب إلى الإسلام؟

هذه معارضة في أساس الدراسة ذاتها، ومدى صلاحية معاييرها في قياس أي شيء.

—–

من جهة أخرى أراها أهم،

من الذي زعم أن هذه هي معايير الإسلام؟ أو أن هذه المعايير من الإسلام؟

من الذي زعم أن الإنجازات الاقتصادية ضمن معايير الإسلام؟
هل أرسل الله رسوله إلى الناس لتحقيق إنجازات اقتصادية؟ أم داعيا للاستسلام لله والخضوع لأحكامه؟ ما هو أساس “الإسلام” الذي دعا إلى إليه جميع الأنبياء صلوات ربي وسلامه عليهم؟
وزعموا أن المعيار الثاني هو الحقوق الإنسانية والسياسية. وهو عنوان بالطبع يثير أحزان كثير من المسلمين. ولكن لم تبين الدراسة ما هي بالضبط الحقوق الإنسانية والسياسية التي يزعمون؟ وبالرغم من عدم رضاي عن أوضاع الحقوق عموما في بلاد المسلمين. فهل ما يحزنني هو ذات ما يحزنهم؟ هل اعتراضهم مثلا على منع “الإسلاميين” أم على منع زواج المثليين؟ هل يرون القصور في حقوق الإنسان في عدم المساواة بين “الأنواع”؟
وهل حديثهم عن القصور في حرية التعبير، تعني عدم السماح بنقد الحاكم في بعض البلاد؟ أم هي فقط عدم وجود حرية التعدي على الأديان والتطاول على الأنبياء والمرسلين، بل وعلى ذات الله عز وجل؟ أم لعلهم يقصدون بها منع الحق في السكوت عن تأييد الشذوذ والشواذ جنسياً؟
هل يدخل في الحقوق الإنسانية، حق التعليم المجاني والعلاج المجاني للمواطن؟ وهو الأمر المتحقق في عدد من الدول العربية، بعضها في مراتب عالية على المستوى العالمي، أكثر من الغرب بكثير، أم أن هذا لا يشفع لهذه الدول في منع زواج المسلمة من غير المسلم؟ أو زواج الذكرين أو السماح بتعدد الزوجات؟
هل لو ألغينا القوامة، وألغينا نصوص تجريم ازدراء الأديان، سيرضون عنا، ويرتفع تقييمنا عندهم؟ ما هي بالضبط معايير الحقوق الإنسانية؟ وخاصة أن الدولة المقدمة عندهم هي واحدة دول الاتحاد الأوروبي، بقوانينه المتعلقة بحقوق الإنسان.
هذه أسئلة تحتاج إلى إجابة، وأمور تحتاج إلى بيان في مجموع ما سموه الحقوق الإنسانية. أما الحقوق السياسية، فلا شك أنها ليست في حالة مرضية في بلادنا الإسلامية في مجملها.

وصحيح أن الإسلام جاء ليعطي كل ذي حق حقه، ولكن هذا لا يعني إعطاء كل أحد ما يدعي أنه حقه.
ثم تأتي العلاقات الدولية. ولا أدري ما علاقتها بتطبيق الإسلام. علما بأن بلادنا الإسلامية في مجملها مسالمة للعالم كله، مسالمة الضعيف المستكين. فلا تملك أن تفعل أكثر من بيانات الإدانة إلى من يسيء إليها اقتصاديا أو سياسيا أو يسيء إلى دينها أو تاريخها.

أخيرا بنية السلطة، وهذه أيضا لا علاقة لها بالإسلام. إذ الغاية في الإسلام أن يكون الحكم عدلا، وحفظا لحقوق الناس وأمنهم. وهذا يعتمد في كل بلد على تركيبته الاجتماعية الداخلية. فإذا كان نظاما ما يناسب التركيبة الاجتماعية وتوزيع القوى في أوروبا فلا يعني هذا أن يناسب مصر. ولو ناسب نظام بلدا كمصر، فلا يعني أنه يناسب مجتمعا قبليا مثل الأردن أو السعودية. وقولي هنا لا يعني تأييدا لما هو قائم في أي بلد، ولكنها مناقشة في الأساس العلمي للمعايير ذاتها. فقد تحقق العدل والرشاد في حكم أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهو نظام في المعايير الحالية نظام حكم الفرد، الذي يملك الصلاحيات التشريعية والتنفيذية والقضائية الكاملة.

وفي نهاية الخبر جاءت عبارة “ويفسر البروفيسور حصول الدول الإسلامية على مراتب متدنية بسبب سوء الحكام واستعمال الدين كوسيلة للسلطة وإضفاء الشرعية على نظام الحكم، بينما تنص تعاليم القرآن على أن الازدهار الاقتصادي جيد بالنسبة للمجتمع”.

ولا أدري من أين جاء بتعاليم القرآن التي تنص على الازدهار الاقتصادي.
—-

ماذا لو أجريت هذه الدراسة على الدول الإسلامية عبر التاريخ؟

وليسمح لي القارئ أن أبدأ من العهد النبوي. أمضى رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنوات تقريباً حاكما على المدينة المنورة. في بداية الدولة الإسلامية.
فما هي الإنجازات الاقتصادية التي تحققت؟ هل أقيمت الصناعات؟ أو امتدت خطوط التجارة؟ أو زادت الرقعة الزراعية؟ لا شيء من هذا كله، هل زادت ثروات الناس في المدينة المنورة؟ أيضا لم يحدث.
الحقوق الإنسانية والسياسية: كان العدل هو أساس الأمر (والشورى)، في حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكانت الحدود مطبقة على الجميع، كبيرهم وصغيرهم، شريفهم وضعيفهم. ولكن ليس كما يحب الباحث الأوروبي، فكان الفحش في سب رسول الله صلى الله عليه وسلم عقابه القتل. ولم يكن مسموحا بإعلان الاعتراض على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم. (وإن كان مسموحا في بعض الأحوال بمراجعة رسول الله في بعض قراراته وأحكامه، ولكن يظل قوله فصل). وطبعا لم تكن الحقوق “الإنسانية” التي يحبها الغرب قائمة، بل كانت مجرمة ومازالت مجرمة في معظم بلاد المسلمين. أما الكلام عن الحقوق السياسية. فلا معنى لمناقشتها في ذلك العصر.
ثم العلاقات الدولية. قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم معظم فترة حكمه في حرب مع قريش، ومع غيرها من قبائل العرب واليهود في الجزيرة. وبعد انتهاء الحرب في الجزيرة بدأت الحرب مع الروم في غزوة مؤتة، ثم مات صلى الله عليه وسلم، وجيشه مستعد للخروج بقيادة أسامة بن زيد لحرب الروم. وكانت من وصيته على فراش الموت “أنفذوا بعث أسامة”. ولم تكن علاقة الفرس بالمسلمين أفضل من علاقة الروم بهم. ثم كانت الحرب قد بدأت بين المسلمين وبني حنيفة في نجد. فهذا يعطينا فكرة عن “العلاقات الدولية”.

أما بنية السلطة، فقد كانت كل السلطات الدستورية في يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو الحكم فيما شجر من خلاف بين أهل الصحيفة، ولا يخرج من المدينة أحد إلا بإذنه. وهو المشرع والقاضي والآمر والناهي. وهي سلطة انتقلت إلى خليفته. وإن كان الخليفة محكوماً بنص القرآن الذي اكتمل نزوله، وبأحكام السنة النبوية التي لا يملك أن يجاوزها.

ولو قسنا نفس المعايير في عهد الخلفاء أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وهم الخلفاء الراشدون المهديون، الذي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم باتباعهم. لكان أيضاً النتائج في الأغلب في صالح الصين، ولا أظن مسلما عاقلا يقبل أن يقال إن الصين كانت أقرب إلى معايير الإسلام من الخلفاء الراشدين.

ما أعرفه من معايير الإسلام، أن أولها الإيمان بالله، وقد تشمل تنفيذ أحكام الإسلام، وإقامة العدل (كما نعرفه في الإسلام)، وحماية القيم الإسلامية، وإعلاء كلمة الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة. ولكن ليس المعايير التي وضعها البروفيسور المذكور. ولا أظن النتائج بهذه المعايير ستخرج كما خرجت في دراسته.

وهذه الدراسة تذكرني بالقول المنسوب إلى الشيخ محمد عبده، “وجدت عندهم إسلاما بلا مسلمين، ووجدت عندنا مسلمين بلا إسلام”. وهو قول باطل على كل وجه، ولا تصح نسبته إلى الشيخ أصلاً. فهو قول لقيط باطل نسب إلى الشيخ زورا وبهتاناً.

صحيح أن حال بلاد المسلمين لا ترضي، وتحقيق العدل بها قاصر، وتطبيق الإسلام بها دون المطلوب بكثير. ولكن هذا لا يعني أن نجعل قدوتنا في تطبيق الإسلام غير المسلمين، وهدفنا في تطبيق الإسلام غير الإسلام.

والله تعالى أعلى وأعلم.

الأوروبي والإنسان

عندما بدأت رحلتي في طلب المعرفة والثقافة. كان من ضمن من قرأته سير المستكشفين. من ضمنها سيرة فاكسو دي جاما، مكتشف رأس الرجاء الصالح، فوجدت أنه تعلم كيف يعبر هذا الممر من ملاح عماني، أحمد بن ماجد الذي أغفل الكتّاب ذكره. ثم قرأت عن نهر النيل، وقصة اكتشاف منابعه على يد رجل أوروبي، فوجدت أنه سأل السكان المحليين عن منبع النهر، فأرشدوه إلى المنبع. ومع ذلك يقولون إن هذا الأوروبي هو أول من اكتشف منابع النيل. ثم كانت الفاصلة عندي عندما قرأت عن ماركو بولو وأنه أول رجل ذهب إلى الصين. وتساءلت حينها (وكنت لم أجاوز الطفولة حينها) هل هو مؤسس الصين؟ أم كانت الصين خالية من الناس، وكان هو أول من ذهب إليها؟ فإذا بها كانت حضارة كبيرة مستقرة، بها ملايين البشر. وعندها بدأت أدرك أنهم عندما يقولون أول من فعل كذا أو أول من اكتشف كذا، فإنهم يقصدون أول أوروبي فعل ذلك. ومع مرور الأيام ازداد وعيي وإدراكي لأبعاد هذه الحقيقة، ومدى رسوخها في العقل والتركيب النفسي الأوروبي. وقس على نفس المعنى أول من اكتشف أمريكا وأول من اكتشف مضيق ماجلان. ولو رجعنا إلى تاريخ العلوم لوجدنا أنهم أخذوا اكتشافات واختراعات من الحضارة الإسلامية، ونسبوها إلى رجالهم، لأنهم لا يرون في الدنيا إنسانا إلا إذا كان أوروبيا. وأمريكا جزء من أوروبا في هذا الشأن، فالأمريكيين هم سلالة المهاجرين من أوروبا، وليسوا سكان البلاد الأصليين.

إن أحد أغرب مظاهر هذا التمييز المستقر في أعماق نفوسهم وعقولهم، الحملة التي أطلقوها قبل أعوام “حياة السود مهمة“، وكنت أرفض هذا الشعار وأستنكره، لأنني أؤمن أن “حياة الإنسان مهمة“. وقد تعلمنا أن الناس سواسية، وأنه لا فضل لعربي على أعجبي ولا أبيض على أسود إلا بالتقوى. هذا هو المعنى الراسخ لدينا المستقر في عقولنا ونفوسنا. ولم أكن أفهم إصرارهم على الإشارة إلى اللون في هذا الشعار، إلى أن حاورت بعض المتأثرين بثقافة الغرب بدرجة تسمح له بالتفكير مثلهم. فبين لي أنهم لا يرون الأمر كما نراه نحن، فإن قولنا “حياة الإنسان مهمة” يعني عندهم الإنسان الأبيض، أما إذا أردنا أن نشير إلى غيره، فعلينا أن نحدد ذلك بوضوح، حياة الإنسان الأسود، أو حياة الإنسان الأصفر. وهذا في الحقيقة يجعل الشعار نفسه عنصريا بامتياز. برغم أن وضع ليحارب العنصرية. إلا أنه يستبطن هذه العنصرية بشكل أساسي.

 

“في المدرسة أخبرتنا المعلمة أن الفاتح الإسباني (بالبوا) قد رأى من فوق إحدى قمم جبال بنما، المحيط الهادي من جهة، والمحيط الأطلسي من الجهة الأخرى. وقد كان هو -كما قالت المعلمة-أول إنسان برى البحرين العظيمين معاً. 

 رفعت يدي قائلاً:  يا آنسة، يا آنسة.

وسألتها:  والهنود، هل كانوا عمياناً.

فكان أول طردٍ في حياتي.”

———————————–

إدواردو غاليانو – من مجموعة (صياد القصص)

 

من مظاهر هذا الإحساس بالتمييز كذلك، فكرة البحث في الأصول العرقية لسكان البلاد المختلفة، على أساس الحمض النووي، وكأن كوني من أصل عربي أو تركي أو صيني أو أوروبي، هو الذي يتحكم في حياتي وسلوكي، أو هو أساس تكويني، وليس انتمائي الثقافي وهويتي اللغوية والدينية. إنهم ينظرون إلى الإنسان على أساس عرقي أولا. ولو تتبعنا مظاهر التمييز العنصري في أوروبا قديما وحديثاً فلن يكفي مقال ولا كتاب لحصرها، وإنما حسبك من القلادة ما أحاط بالعنق. لذلك، لم أتعجب من تعليق بعضهم على الحرب في أوكرانيا، أو اللاجئين منها إلى سائر أوروبا. بل عجبت من تعجب البعض عندنا من هذه التعليقات.

إنها حقيقتهم التي يحاولون أن يتهموننا بها، إنها عللهم التي لم يتمكنوا من علاجها، وعالجها الإسلام قبل قرون طويلة، بكلمات من رسول الله صلى الله عليه وسلم. تلقفتها أمته وحرصت عليها. ونحن في عموم بلادنا لسنا بهذه العنصرية المقيتة، برغم ما يظهر أحياناً من سلوك قد يبدو عنصريا، وقد يكون بعضه عنصريا فعلاً، إلا أنه كسلوك عام لا ينحدر إلى المستوى المستقر في العقل الأوروبي، سواء على مستوى الجمهور، أو على مستوى من نعتبر أمثالهم عندنا نخبة، من صحفيين أو إعلاميين أو سياسيين. ولعل صعود اليمين الأوروبي دليل واضح على رسوخ هذا التمييز في نفوسهم، وتزايده في السنوات الأخيرة. إنهم – في عمومهم- لا ينظرون إلينا هذه النظرة المتعالية، لأننا مسلمون فقط، ولكن لمجرد كوننا غير أوروبيين، لسنا من ذوي البشرة البيضاء والشعر الأصفر والعيون الزرقاء. فليت قومي يعلمون.

توقفت المعركة ولم تنته الحرب

توقفت المعركة ولم تنته الحرب

بدأ أخيرا وقف إطلاق النار في الأراضي الفلسطينية، بين أهل البلاد والمحتل الغاصب. وهذا مجرد وقف للقتال، قد يتطور إلى هدنة قريباً، إذا لم يغدر العدو كعادته.

وأحسب أنه فرصة جيدة لأهل غزة لالتقاط الأنفاس، والحصول على ليلة ينامون فيها مطمئنين.

وفرصة لنا للنظر في الوضع كله، نظرة ليست تحت ضغط المعركة القائمة. فالكلام أثناء المعركة لا يحتمل إلا الحديث عن الصمود ووجوب النصر. بعدها يمكن الحديث عن المكاسب والخسائر والتقييم وغير ذلك من الأمور.

بداية، علينا جميعا أن نتذكر أن معركة سيف القدس مجرد حلقة في سلسلة طويلة ممتدة، لا تنتهي إلا بتحرير كامل الأرض.

ثم نتذكر أن قياس النصر والهزيمة يعتمد على تحقيق الأهداف المرجوة من كل عملية عسكرية، وأن القتال هو تفاوض سياسي عنيف.

هذه العملية العسكرية كان لها هدف أساسي معلن، وهو وقف محاولة اقتحام المسجد الأقصى المبارك. وهو ما تحقق بمجرد انطلاق صافرات الإنذار في القدس المحتلة. بهذا التوقف سجلت المقاومة انتصارها الأول والأساسي في تقديري. كل ما جاء بعد ذلك يأتي في سجل المكاسب الإضافية أو ثمن النصر. فهناك مئات الشهداء من المدنيين والنساء والأطفال والرجال والمقاتلين كذلك. نسأل الله أن يتقبلهم في الشهداء وأن ينفعنا بدعائنا لهم.

وهناك المباني المهدمة والبنية التحتية المدمرة والكثير من الخسائر التي تسبب فيها القصف الوحشي المتعمد على الأهداف المدنية في قطاع غزة. وهذا ضمن ثمن النصر.

على الجانب المقابل، فقد تحقق الكثير مما لم يسبق تحقيقه في هذه الحرب الطويلة. ففي اليوم الأول للمعركة حققت المقاومة الهدف المعلن، وفرضت إراداتها على العدو تماما. بوقف محاولة اقتحام المسجد المبارك، واختفاء قطعان المتطرفين الراغبين في اقتحامه.

كذلك تم دك تل أبيب، وإغلاق مطار بن غوريون، وإغلاق مطار رامون في مدينة إيلات، وهذه أول مرة أسمع عن قصف لمدينة إيلات منذ وعيت على الدنيا. مع أنها على رمية حجر من العقبة الأردنية وطابا المصرية.

أعتقد أن هذه المعركة قد غيرت وجه الحرب بصورة كبيرة. من عدة أوجه.

منها تهديد الكيان وسكانه في جميع الأراضي المحتلة، لم يعد هناك مناطق آمنة بعيدة عن ذراع المقاومة. وهذا في ظني أهم مَقاتِلِ العدو. هذا العدو يعتمد على هجرات اليهود إليه من مختلف بلاد العالم. والمهاجر في العادة يبحث عن الأمن أولا. فضرب الإحساس بالأمن يقتل نمو هذا الكيان.

ومنها تحقيق قدر كبير من توازن الرعب والألم. صحيح أن القدرة النارية للعدو مازالت أعلى كثيراً، وإجرامه ووحشيته لم تتغير. ولكن يظل العنصر الفارق في المعادلة في قوله تعالى “وَلَا تَهِنُواْ فِي ٱبْتِغَآءِ ٱلْقَوْمِ ۖ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ ۖ وَتَرْجُونَ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ ۗ وَكَانَ ٱللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا“. فإيمان أهل فلسطين بأنهم يقاتلون على الحق وأن عدوهم على الباطل، وأن قتلانا في الجنة وقتلاهم في النار، يجعلهم أكثر قدرة على تحمل الخسائر في المال والنفس، من الصهاينة الذين ليس لديهم مثل هذه العقيدة. هذا التباين في العقيدة كان أساس صمود المقاومة عبر العقود، ولم تكن لهم قدرة كبيرة على إيلام العدو والنكاية فيه. واليوم تحقق للمقاومة قدرة عالية على إيلام العدو؛ مما يجعل كفة الميزان تعتدل بشكل أكبر.

كذلك لابد من الإشارة إلى مشاركة عرب أراضي 48 في العمليات، من خلال التظاهرات والإضراب وغيرها. وهذا مؤشر شديد الأهمية على تغير بعيد المدى في طبيعة الصراع الوجودي بين أهل البلاد والاحتلال الاستيطاني البغيض.

في المعارك السابقة كنا نعتبر أن فشل الاحتلال في إنهاء المقاومة وتصفيتها انتصاراً. وقد كان كذلك بالفعل. أما اليوم، فإن الانتصار هو فرض إرادة المقاومة على العدو في مسألة أو أكثر.

كذلك تغير الصوت العالمي تجاه القضية، فقد رأينا العديد من المشاهير والسياسيين في العالم يدافعون عن حق الشعب الفلسطيني، رأينا أعضاء كونجرس يطالبون بوقف إطلاق النار. وهذا كله جديد تماماً ويبشر بتغير في الصوت العالمي ولو بعد حين. ولكنه يتطلب أن لا ننسى نحن، وأن نستمر في الدعم الإعلامي للقضية.

أما الفرق الأكبر الذي رأيته، فهو تغير في قلوب الناس، داخل فلسطين وخارجها. وقد رأيت بعضاً منه في تعليقات الناس على وسائل التواصل وعلى الأرض. في المعارك السابقة، كانت النغمة السائدة بين الناس هي رجاء أقل الخسائر بين المدنيين، والحديث المستمر عن بدائل المقاومة المسلحة ومناقشة مدى جدواها. في هذه المعركة كان هناك الكثير من السخرية من العدو ومن قوته العسكرية المزعومة، ومن أقوال قياداته وإعلامه. وهناك الكثير من التوقعات من المقاومة، بل ومطالبات لها أن لا تقبل بوقف إطلاق النار إلا بشروط عالية وبثمن كبير.

هذا الشعور بإمكانية النصر، بل بحتمية النصر، سوف ينعكس بصورة كبيرة على جوانب عديدة إذا أحسَنّا استثماره وعملنا على رعايته وتنميته. خاصة وقد نجح العرب والمسلمون في تحقيق انتصارات لطيفة في مجال الصراع الإعلامي، بعد إرغام بعض وسائل التواصل الاجتماعي على مراجعة موقفها وسلوكها من الأصوات الداعمة للحق الفلسطيني، وهي معركة علينا الاستمرار فيها وعدم الركون إلى ما تحقق. فالعدو لن يهدأ وسيسعى إلى استعادة ما فقده إعلامياً.

لقد نجحت المقاومة في المعركة الأخيرة، في تحطيم أسطورتين مهمتين جدا للكيان. الأولى القبة الحديدية التي يحاول إعلام العدو تغطية سوأتها بالتأكيد على قدراتها العالية في التصدي لمعظم صواريخ ومقذوفات المقاومة. والثانية الأمن المعلوماتي. الكيان لديه أهم شركات أمن المعلومات في العالم، ولكنه فشل في حماية أمن معلومات مخابراته وأجهزته الأمنية. فقد نجحت المقاومة في اختراقها والحصول على أسماء المتعاونين مع العدو. وقلع أعينه في داخل القطاع.

نجحت المقاومة في زراعة الأمل في قلب الشعب العربي والإسلامي كله. وقتل الشعور باليأس من التحرير واليأس من الانتصار في أي معركة. كما نجحت في تحطيم أسطورة القبة الحديدية، وإنهاء أسطورة القدرة الفائقة للاحتلال. وكسر المناصرة العمياء للغرب كله للكيان المحتل والدفاع عنه في كل حال.

هذه مجموعة من المكاسب التي حققتها المقاومة حتى الآن.

هذا بعض ما تحقق، وعلينا أن نتذكر مرة أخرى أن الحرب لم تنته. فما زال هناك طريق طويل. لا ينبغي أن يقطعه المقاتلون وحدهم. فما تحقق على وسائل التواصل ينبغي أن يستثمر. وهذا دور الدعم الشعبي للحق الفلسطيني. وما تحقق من شعور بالعزة والكرامة ينبغي رعايته. فأبواق العدو بيننا من المنافقين والمثبطين والذين في قلوبهم مرض، لن يتوقفوا عن زرع الفتنة وتثبيط الهمم ونشر اليأس بين الناس. وعلينا أن نكون لهم بالمرصاد. والله المستعان عليهم.


سيتحرر الأقصى، وستتحرر كامل أرض فلسطين يوما ما. ونسأل الله أن يكون قريباً. ونسأل الله أن يجعلنا من الفريق المدافع عن الحق.

ولعل هذه المعركة من مبشرات تحقيق وعد الله قريباً.

سألتني ابنتي

سألتني ابنتي ذات التسع سنوات سؤالا عميقاً وجميلاً.

كنت أحدثها عن العشرة المبشرين بالجنة. فسألت: “ماذا يحدث لو أن أحد هؤلاء المبشرين بالجنة أخطأ خطأ كبيراً، أو قام بعملٍ سيء؟ هل سيدخل الجنة أيضاً؟”

فكانت إجابتي لها من جزأين.

الأول: أن كل البشر يخطئون. كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون. ولكن الخطأ مستويات ودرجات. فأن تعبس في وجه أخيك خطأ. ولكنه ليس كأن تضربه، وأن تضربه ليس كأن تسرقه أو تقتله. والله تعالى يغفر الذنوب جميعاً إلا أن يشرك به. فمادام الإنسان مسلماً، فهو يأمل في عفو الله ومغفرته. ونحن عندما نقيّم إنساناً، فنحن نقيّمه بمجموع أعماله والغالب على حاله. فهذا بشوش في الأغلب، ولكنه قد يعبس مرة أو مرات قليلة. وهذا صبور يتحمل، ولكن قد ينفد صبره أحياناً. فلا يغير هذا من صفته الأساسية. ولكل إنسان مزايا وعيوب. فمن كانت مزاياه أكبر وأغلب، فهو على خير، برغم عيوبه.

والجزء الثاني:

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عندما بشر هؤلاء بالجنة، بشرهم بعلم من الله عز وجل. والله تعالى عندما أعلم رسوله بدخولهم الجنة، كان يعلم أعمالهم وأحوالهم منذ المولد إلى الوفاة، ويعلم مستقرهم في الآخرة. لأن الله تعالى يعلم علم الماضي والحاضر والمستقبل، ولا يخفى عليه شيء. فلو كان أحدهم سيفعل ما يمنعه من دخول الجنة، ما بشره رسول الله بها من الأصل.

—-

ذكرني سؤالها بكثير من الشبهات المثارة حول السيرة النبوية، والصحابة الكرام رضوان الله عليهم.

فهو يحتوي على مغالطة منطقية، يمكن قبولها ببساطة من طفلة في سنها. لأن البشارة بالجنة كانت بعد علم الله بعملهم كله من مولدهم إلى وفاتهم، وليس عملهم هو المعتمد على البشارة بالجنة.

كما أن بشارة أبي لهب وزوجته بالنار، كانت نتيجة علم الله المسبق بعملهما إلى يوم وفاتهما. وليس كفرهما هو المبني على علمنا بأنهما في النار.

وهذه المغالطة المنطقية، يقع فيها الكثير من أصحاب الشبهات والناشرون لها.

أما القضية الأخرى، فهي قيام هؤلاء باقتطاع موقف واحد للصحابي (ويحدث الأمر نفسه مع عالم أو فقيه)، دون النظر في سياقه أو ظروفه، أو عموم حال الشخص، ليعمم هذه اللحظة على حياته كلها، ويطلق منها حكماً نهائياً على الصحابي، يحاول به إسقاط قدر هذا الصحابي، أو تبرير فعل خاطئ، حسب الظروف.

فقد رأيت علمانيين يختزلون سيرة سيدنا أبي بكر الصديق في موقف سب فيه أحد كفار قريش يوم الحديبية، ويتجاهلون أعمال أبي بكر الأخرى ومنها أن المشرك نفسه أقر بفضل أبي بكر عليه، وأنه (المشرك) لم يرد لأبي بكر جميله السابق. والمذهل أن بعض الإسلاميين فعل الأمر نفسه، ليبرر لنفسه وفريقه فاحش القول في حق مخالفيهم.

ويحدث الأمر نفسه مع العديد من الصحابة الأجلاء، كبيرهم وصغيرهم، وسابقهم ولاحقهم. وكلهم عندنا كبار سابقون.

لذلك، أردت من الجزء الأول أن أحصنها ضد الشبهة المستمرة ضد الصحابة، وضد عظماء التاريخ الإسلامي.

وأردت في الجزء الثاني، تصحيح منطق التفكير في مثل هذه القضايا.

فمن كان لديه تصحيح لكلامي، أو تعقيب عليه، فلا يبخل به عليّ، لعلي أنتفع به في المستقبل.